ثمة سؤالان مطروحان بقوة اليوم في فرنسا بشأن الانتخابات التشريعية لاختيار برلمان جديد، التي تعقد دورتها الأولى، الأحد؛ الأول، ما الذي سيحصل ما بين الدورتين الانتخابيتين الأولى والثانية، والفارق الزمني بينهما أسبوع واحد: هل ستدعو «الكتلة الوسطية» التابعة للرئيس إيمانويل ماكرون، منذ مساء الأحد، أي بعد أن تعرف نتائج الجولة الأولى، إلى التصويت لصالح مرشحي «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار والخضر لقطع الطريق على مرشحي اليمين التطرف؟ والثاني، هل سينجح مرشحو «التجمع الوطني» في الاستفادة من الدينامية السياسية التي يحظون بها بعد النجاح الاستثنائي الذي حققته لوائح الحزب في الانتخابات الأوروبية الأخيرة؟ وتؤكد استطلاعات الرأي حصول الحزب الذي يمثل اليمين المتطرف برئاسة جوردان بارديلا على الأكثرية المطلقة في البرلمان والبالغة 289 نائباً.
السقف الزجاجي
الواقع أن مؤسسات الاستطلاعات، التي تُحاول تحديد توجّهات الناخبين البالغ عددهم 49.5 مليون ناخب، عاجزة عن الإجابة عن هذين التساؤلين لسبب رئيسي؛ عنوانه النظام الانتخابي التشريعي الفرنسي القائم على أساس الدائرة الصغرى، بحيث إن فرنسا ستشهد، في الدورتين الانتخابيتين، 577 معركة انتخابية. لكن الثابت أن نسبة المشاركة التي من شأنها أن تقلب المعادلات تبدو هذه المرة مرتفعةً للغاية، إذ يتوقع أن تصل إلى 66 بالمائة، أي بزيادة 19 نقطة، هي ما كانت عليه في عام 2022. والثابت الآخر أن من بين المجموعات السياسية الثلاث التي تهيمن حالياً على المشهد الانتخابي، يبدو اليمين المتطرف الأكثر أهلية للفوز بالأكثرية أو الاقتراب منها إلى أكبر حد. وفي الحالين، سيكون له الدور الكبير المؤثر للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، التي أرسى دعمها الجنرال ديغول في خمسينات القرن الماضي.
وبكلام آخر، فإن «السقف الزجاجي»، وفق التشبيه الفرنسي الذي يعني أن اليمين المتطرف لن يصل يوماً إلى السلطة، إما بسبب طروحاته السياسية والأيديولوجية وتاريخه المثير للشبهات، أو لأن الفرنسيين ليسوا مستعدين بعد لإعطائه مفاتيح السلطة، تشقق.
وتغير هذا اليمين وتطور، حتى بات ينظر إليه على أنه حزب ككل الأحزاب، رغم أن الأحزاب الماكرونية والرئيس ماكرون شخصياً، وكذلك رئيس حكومته غابرييل أتال، جعلوه خارج «القوس الجمهوري»، والمقصود به الأحزاب المؤهلة لحكم فرنسا والملتزمة بالمبادئ والقيم الجمهورية.
تصدّر اليمين المتطرف
ورغم هشاشة الأرقام والنسب التي توفرها مؤسسات استطلاع الرأي، فإنه من المفيد التوقف عندها لأنها تعكس بأمانة نسبية توجهات الرأي العام المعلنة. وتفيد هذه الاستطلاعات بأن «التجمع الوطني» سيحتل المرتبة الأولى، بحيث سيحصل على 35 بالمائة من الأصوات، الأحد، وتتبعه «الجبهة الشعبية الجديدة» (حوالي 30 بالمائة)، فيما يحل «ائتلاف الوسط» في المرتبة الثالثة متخلفاً عن تحالف اليسار والخضر بفارق قد يصل إلى 10 نقاط.
وإذا صدقت استطلاعات الرأي المتواترة، فإن اليمين المتطرف الفرنسي قد يكون، للمرة الأولى، على أبواب السلطة مجدداً، منذ 84 عاماً، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار نظام المارشال بيتان المتعاون مع ألمانيا النازية. لكن الفارق كبير للغاية بين سياق تسلقه سلم السلطة منتصف القرن الماضي، وبين السياق الراهن، حيث تشكل الانتخابات التشريعية التي تجرى جولتها الأولى، الأحد، رافعته الديموقراطية.
حلّة جديدة
وحتى يصل اليمين المتطرف إلى السلطة، أو يقترب منها إلى أقصى حدود، عبر العملية الانتخابية، في ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي وفي الدولة الوحيدة داخله المتمتعة بمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، وبحق النقض وبالسلاح النووي، كان عليه أن يتغير، ويتطبع، وأن تتحول صورته في أذهان الفرنسيين. فالحزب انطلق بداية في عام 1972، باسم «الجبهة الوطنية»، وكانت حاضنته الآيديولوجية والسياسية منظمة يمينية متطرفة اسمها «النظام الجديد»؛ وهي مزيج من مناصري المارشال بيتان والفلسفة النازية وتأثير الفاشستية الموسولينية في إيطاليا.
وسريعاً جداً، وجد الحزب في جان ماري لوبان قائده الملهم. فهذا الرجل البالغ من العمر حالياً 96 عاماً له تاريخ حافل في ميدان التطرف، وقد برز اسمه خلال حرب التحرير الجزائرية، حيث شارك ضابطاً في صفوف الجيش الفرنسي. وتفيد وثائق أرشيفية وشهادات موثقة بأنه مارس التعذيب ضد أعضاء ومناصرين لـ«جبهة التحرير الجزائرية».
توريث زعامة «الجبهة الوطنية»
خلال رئاسته لـ«الجبهة الوطنية» طوال 39 عاماً حتى عام 2011، مارس لوبان الزعامة المطلقة. فكان الآمر الناهي الذي جزَّ رؤوس من حاولوا الانفصال عنه، أو منافسته على رئاسة الحزب، بحيث تخلى عن أقرب المقربين إليه مثل برونو غولنيش وبرونو ميغريه وكثيرين آخرين. وخلال حياته السياسية، انتُخب تباعاً نائباً في البرلمانين الفرنسي والأوروبي، ومسؤولاً محلياً وإقليمياً.
وخاض لوبان غمار الانتخابات الرئاسية 5 مرات. بيد أن أهم ما حققه في حياته السياسية أنه نجح في التأهل للجولة الثانية والنهائية من انتخابات عام 2002، حين حل في المرتبة الثانية في الجولة الأولى متقدماً على ليونيل جوسبان، المرشح الاشتراكي ورئيس الحكومة وقتها، إلا أنه في الجولة الثانية لم ينجح في تخطي عتبة الـ20 بالمائة، فيما حصل منافسه، الرئيس جاك شيراك، على 80 بالمائة بفضل التعبئة الشعبية ضد وصول رئيس يميني متطرف إلى قصر الإليزيه.
تجدر الإشارة إلى أن لوبان واجه العشرات من المحاكمات خلال حياته السياسية الطويلة بتهم مختلفة، منها العنصرية ومعاداة السامية ومعاداة الأجانب والترويج للكراهية وتمجيد جرائم الحرب، وقد حُكم عليه ما لا يقل عن 25 مرة.
في عام 2011، وعند وصوله إلى سن الـ83، تخلى لوبان الأب عن الرئاسة الفعلية لـ«الجبهة الوطنية». ولأن الصفة الأولى المكونة لحزبه أنه «عائلي»، في الصميم، فقد دعم ترشيح ابنته مارين ضد رفاقه القدامى الذين وقفوا إلى جانبه ودعموه لعقود، وبذلك حصلت على ثلثي أصوات أعضاء الحزب الذي أسبغ على لوبان الأب صفة «رئيس الشرف».
ولأن مارين الابنة وعت باكراً أن الاستمرار على نهج ولدها سيفضي بها إلى طريق مسدود، فقد سعت، منذ اليوم الأول لانتخابها وبمعاونة جيل جديد من الحزبيين والمقربين منها، إلى تغيير صورة الحزب واجتذاب الشباب إليه وتجذيره في المشهد السياسي والجغرافي الفرنسي. وبرز ذلك بقوة في اختيارها لرئاسته الشاب جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 عاماً، الذي لم يسبق له أن تسلم وظيفة إدارية، كما أنه لم يكمل دراسته الجامعية.
قضية عائلية
رغم المهارة السياسية التي أظهرها بارديلا، والصورة التي يعكسها، وهو الذي يطرح نفسه رئيساً للحكومة القادمة، والإيجابية التي يحظى بها في أوساط لم تعتد التهليل لـ«الجبهة الوطنية» وبعدها لـ«التجمع الوطني»، فإن وصوله إلى رئاسة حزبه لم يأت فقط بفضل براعته أو انتظامه، بل الفضل في ذلك يعود للروابط العائلية.
مارين لوبان ورثت الرئاسة من والدها، وتخلت عنها لأنها تريد أن تكرس نفسها للتحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة. ولذلك، فإنها اكتفت، في البرلمان المحلول، برئاسة مجموعة حزبها النيابية وأوكلت لبارديلا أيضاً قيادة لائحة الحزب في الانتخابات الأوروبية.
بارديلا، منذ أربع سنوات، رفيق درب نولين أوليفيه التي هي ابنة ماري – كارولين لوبان، الشقيقة الكبرى لمارين وحفيدة جان – ماري لوبان. ولاكتمال الصورة، تتعين الإشارة إلى أن ماريون مارشال، رئيسة لائحة الحزب اليميني الأكثر تطرفاً «إعادة السيطرة» الذي يرأسه إريك زيمور، هي أيضاً حفيدة جان ماري لوبان، ما يُبيّن أن اليمين المتطرف الفرنسي هو أولاً «مشروع عائلي».
وبعد خلافها مع زيمور، انفصلت عنه وعادت إلى أحضان الحزب العائلي. وثمة من يطرح اسمها وزيرةً في الحكومة المقبلة، في حال حصل حزب «التجمع الوطني» على الأكثرية المطلقة في البرلمان.
ما يعيشه الحزب المذكور لا مثيل له، بهذا المستوى، لدى الأحزاب الأخرى. الجنرال ديغول لم يورث خليفة عائلية له، وسار من جاؤوا بعده على هديه. وينسحب هذا الواقع على الأحزاب التي لا توريث فيها يمنياً كان أو يساراً، بعكس الحال مع عائلة لوبان التي تهمين، لا بل احتكرت، منذ عقود، آيديولوجيا اليمين المتطرف رغم مساعي تلطيف صورته، وهي اليوم الأقرب للهيمنة على السلطة.