استقبال غير مسبوق أعدّته فرنسا للرئيس الأميركي جو بايدن وعقيلته في زيارة الدولة الأولى من نوعها التي يقوم بها إلى باريس، والتي تأتي عقب مشاركته في احتفالات الذكرى الثمانين لإنزال الحلفاء العسكري الكبير على شواطئ منطقة النورماندي.
فرئاسة الجمهورية ذهبت أبعد مما ينص عليه البروتوكول في مثل هذا النوع من الزيارات: بايدن حظي باستقبال رسمي في ساحة قوس النصر، حيث كان بانتظاره الرئيس إيمانويل ماكرون وعقيلته بريجيت والعديد من أركان الدولة الفرنسية. ووصل بايدن بسيارته المصفحة مزدانة بالعلمين الأميركي والفرنسي بمواكبة أمنية استثنائية من دراجي شرطة باريس، التي نشرت المئات من أفرادها على طول جادة الشانزليزيه، وصولاً إلى ساحة قوس النصر.
حفاوة الاستقبال
في جادة الشانزليزيه، عزفت موسيقى النشيدين الوطنيين الأميركي والفرنسي، قبل أن يضع ماكرون وبايدن معاً إكليلاً من الورد الأحمر والأبيض والأزرق (ألوان علمي البلدين)، على نصب الجندي المجهول الواقع في قلب قوس النصر.
وبعد أن أضرم الرئيسان رمزياً شعلة الجندي المجهول التي لا تنطفئ أبداً، وعزفت موسيقى الجيش «لحن الأموات»، ثم أنشدت جوقته النشيدين الأميركي والفرنسي، عمد بايدن وماكرون إلى مصافحة وفدي البلدين والشخصيات المدنية والعسكرية التي دُعيت إلى الاحتفال. وبرز من بين الأميركيين وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان.
في الوقت عينه، مرّ سرب من 4 طائرات «رافال» تابعة لسلاح الجو الفرنسي فوق موقع الاحتفال، قبل أن يصعد بايدن وماكرون في سيارة الأول متجهين إلى قصر الإليزيه بمواكبة 140 فارساً من خيالة الحرس الجمهوري، و38 دراجاً. واللافت أن الاحتفال غاب عنه، ولأسباب أمنية، الطابع الشعبي ــ الجمهوري، وقد جرى وسط إجراءات أمنية استثنائية تسببت بازدحامات مرورية خانقة بالنسبة للباريسيين، وبإغلاق عدد من الشوارع ومحطات المترو.
جدول أعمال مزدحم
لم تقتصر زيارة الدولة على الطابع الاحتفالي والبروتوكولي. فقصر الإليزيه استضاف غداء عمل ومحادثات بين الطرفين الأميركي والفرنسي، منها جلسة مغلقة بين الرئيسين. وقد استبق سوليفان اللقاءات الرسمية بتحديد الملفات والتحديات المدرجة على جدول المحادثات، وأوّلها الحرب الأوكرانية وحرب غزة وتطوراتها، والتعاون في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وقضايا سياسية متنوعة، منها التغير المناخي والذكاء الاصطناعي وسلاسل التوريد.
وزاد الناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي أن بايدن وماكرون سيبحثان تعزيز حلف «الناتو»، وتعهد كلاهما بدعم أوكرانيا، على الرغم من أنهما لم يتفقا بعد على خطة لاستخدام الأصول الروسية المجمدة لمساعدة كييف. وقال مسؤول في وزارة الخزانة الأميركية، الثلاثاء، إن الولايات المتحدة وشركاءها في مجموعة السبع يحرزون تقدماً في هذا الشأن.
من جانبها، قالت الحكومة الفرنسية إن الرئيسين سيناقشان تقديم مزيد من الدعم لأوكرانيا في دفاعها ضد روسيا. كما سيبحثان الاستعداد لقمة مجموعة السبع المقررة الأسبوع المقبل في مدينة باري الإيطالية، وقمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العاصمة الأميركية واشنطن في يوليو (تموز) المقبل.
الملف الأوكراني
بعكس بايدن الذي تكلم لوقت قصير، فإن ماكرون أسهب في تعداد الملفات التي تناولتها محادثات الطرفين في قصر الإليزيه. وحرص ماكرون على إظهار التقارب بينه وبين نظيره الأميركي، فشكره مراراً على ما يقوم به بالنسبة لأوكرانيا، ولاعتباره أن ما يحصل هناك «يقرر مصير الأمن والاستقرار في أوروبا»، مضيفاً أن الطرفين يتمتعان برؤية واحدة.
وذكّر ماكرون بالقرارات المتشابهة التي اتخذها الطرفان، مثل السماح لأوكرانيا باستهداف مواقع داخل الأراضي الروسية، وتسليح وتدريب القوات الأوكرانية، إلا أنه تجنّب الدخول في الملفات الخلافية، وعلى رأسها إرسال مدربين أو قوات غربية إلى أوكرانيا، وهو ما تستعد باريس للقيام به من خلال إقامة تحالف غربي، أو بالنسبة لاستخدام الأصول الروسية في الولايات المتحدة وأوروبا.
وبالمقابل، فإن الرئيس بايدن عاد لتأكيد أن للرئيس الروسي مطامع أبعد من أوكرانيا. وقال ما حرفيته إن «بوتين لن يتوقف عند أوكرانيا (…) أوروبا برمّتها مهددة، ولن ندع ذلك يحصل. الولايات المتحدة تقف بقوة إلى جانب أوكرانيا. أكرر أننا لن نتراجع». وأشار ماكرون إلى أنه والرئيس بايدن سيلتقيان مجدداً الأسبوع المقبل في إطار قمة مجموعة السبع في إيطاليا، والشهر المقبل في واشنطن بمناسبة القمة الأطلسية.
وأكّد ماكرون حضوره «قمة السلام» في سويسرا منتصف الشهر الحالي، التي سيغيب عنها بايدن. وأعرب ماكرون عن أمله في أن يلتزم قادة السبع بتسليم جزء مما أقرّوه، بتوفير مبلغ 50 مليار دولار لأوكرانيا. وتجدر الإشارة إلى أن بايدن أعلن منح كييف 225 مليون دولار في إطار حزمة جديدة من المساعدات، لتمكينها من شراء صواريخ مضادات جوية وذخائر. وأشار بايدن إلى أن أوروبا قد مدّت أوكرانيا بما قيمته الإجمالية 107 مليارات دولار منذ انطلاق الحرب قبل أكثر من عامين.
حرب غزة والجبهة اللبنانية
وفي موضوع غزة، وبعد أن عبّر ماكرون عن ارتياحه لإفراج إسرائيل عن 4 رهائن، أكد أن المطلوب التوصل إلى «وقف فوري لإطلاق النار، وفتح الباب أمام الحل السياسي الذي هو الوحيد من شأنه الدفع باتجاه سلام عادل ودائم ويستجيب للتطلعات الأمنية للشعبين» الفلسطيني والإسرائيلي. وإذ جدّد ماكرون دعم فرنسا لـ«الاتفاق الشامل» الذي طرحه بايدن، اعتبر أن الوضع في رفح والخسائر الإنسانية «أمر لا يمكن قبوله»، والأمر نفسه ينطبق على رفض إسرائيل فتح جميع المعابر «أمام تدفّق المساعدات الإنسانية».
ودعا ماكرون مجلس الأمن للتحرك، ولأن يلعب دوره للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وبالتوازي، شدد الرئيس الفرنسي على ضرورة «مضاعفة الجهود من أجل منع حصول انفجار إقليمي، خصوصاً مع لبنان، حيث نتشارك «مع الولايات المتحدة الأميركية» ضرورة التوصل إلى محددات من أجل خفض التصعيد على الخط الأزرق، وبخصوص الملف المؤسساتي «العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية». وأهمّ ما ورد في كلام ماكرون تأكيده أن البلدين أعربا عن «تصميمهما على وجود تنسيق وثيق في المحادثات مع إسرائيل من جانب، ومع لبنان وجميع الأطراف المعنية».
سياسة إيران التصعيدية
ومن ملف غزة، وصل ماكرون منطقياً إلى ملف إيران، حيث عبر عن أن باريس وواشنطن متفقتان على اعتبار أن طهران تعتمد «سياسة تصعيدية بلا تحفظ»، أكان ذلك بالنسبة لهجمات «حماس» غير المسبوقة على إسرائيل، أو محاولاتها لضرب الاستقرار الإقليمي، أو بالنسبة لبرنامجها النووي. وأكّد ماكرون أن فرنسا والولايات المتحدة عازمتان على «ممارسة الضغوط الضرورية»، وأنهما أظهرتا هذا العزم من خلال القرار الصادر مؤخراً عن مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة النووية.
منفعة متبادلة
تقول مصادر فرنسية إن زيارة الدولة بالغة الأهمية للرئيسين ولأسباب متقاربة: بايدن بحاجة لإظهار أنه زعيم العالم الحر والداعم الأول لأوكرانيا في مواجهتها للعدوان الروسي، وأن قدراته كاملة للتعاطي مع قادة العالم، وكل ذلك سيكون مفيداً في إطار سعيه للفوز بولاية ثانية. كذلك، فإن ماكرون الذي يخوض حزبه وحلفاؤه معركة الانتخابات الأوروبية من موقع ضعيف، يرى في الجمع الغربي الذي توافد إلى فرنسا، وعلى رأسه الرئيس بايدن مثالاً على الموقع الذي يحتله على الخريطة الأوروبية والعالمية.
كذلك، تعتبر باريس أن الأيام الخمسة لزيارة بايدن لفرنسا تبين أهمية هذا البلد في أعين الإدارة الأميركية. وفي هذا السياق، تفهم جملة إشادة ماكرون بالرئيس الأميركي ليس فقط كقائد لقوة عالمية، بل أيضاً لأنه يجلب «الوضوح والولاء لشريك يحب الأوروبيين ويحترمهم».
كان لافتاً إصرار بايدن على التذكير بأهمية الصداقة الأميركية – الفرنسية، وإصرار ماكرون على العلاقة الخاصة التي تربطه بنظيره الأميركي وبالإنجازات المتبادلة الاقتصادية والاستثمارية، من غير تناسي القلق الذي يصيب الأوروبيين مما يعتبرونه إجراءات أميركية تنسف التنافس الحر، وتُوفّر ميزات للشركات الأميركية على الشركات الأوروبية.
وأكثر من مرة، أشاد بايدن بالعلاقات التي تربط بلاده بفرنسا، وهو شخصياً، مُؤكداً أن فرنسا «كانت أول صديق لنا»، في إشارة إلى الدعم الذي قدمته باريس للثورة الأميركية على الإنجليز، مضيفاً أنها «لا تزال من أفضل أصدقائنا». وبذلك يكون بايدن قد قلب صفحة الخلافات التي برزت في الكثير من المرات بين الطرفين، وكان آخرها نسف «صفقة القرن» التي كانت باريس قد وقعتها مع كانبيرا لبيعها مجموعة من الغواصات. وعمدت بعد ذلك إلى نقض الاتفاق، واستبدال به عقد أميركي ــ بريطاني.
وليلاً، وفي إطار زيارة الدولة، يحلّ بايدن وفريقه ضيوفاً على الإليزيه للعشاء الرسمي، الذي سيكون آخر عناصر الزيارة. وسيعود بايدن إلى الولايات المتحدة، بعد أن يمر مجدداً في منطقة شمال فرنسا لتكريم الجنود الأميركيين الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى في الدفاع عن فرنسا.