لم تخطئ مؤسسات استطلاع الرأي في توقع نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا فجاءت، إلى حد بعيد، مطابقة لما دأبت هذه المؤسسات على إعلانه منذ أن حلّ الرئيس إيمانويل ماكرون البرلمان في التاسع من يونيو (حزيران)، ودعا إلى انتخابات جديدة
ثمة رابحان، هما «التجمع الوطني» اليميني المتطرف و«الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار الثلاثة والخضر. وخاسران هما ائتلاف اليسار الذي يتشكل من الأحزاب الثلاثة (تجدد والحركة الديمقراطية وهورايزون) الداعمة للرئيس الفرنسي وعهده وحزب «الجمهوريون» التقليدي الذي خسر مرتين: الأولى بانشقاق رئيسه أريك سيوتي والتحاقه باليمين المتطرف، والأخرى بشبه محوه عن الخريطة السياسية.
والنتيجة المباشرة بالنسبة لماكرون مثلثة الأضلع أولها ضعفه السياسي للفترة المتبقية له من ولايته الثانية (ثلاث سنوات) في الداخل والخارج، وثانيها بدء انفضاض كبار الشخصيات التي سارت إلى جانبه منذ العام 2017، وها هي لا تتردد في إبراز تمايزها عنه أو حتى «استقلاليتها» بمن في ذلك رئيس حكومته غبرييل أتال. أما ثالثها فاحتمال اضطراره إلى الاستقالة رغم تأكيده أنه باقٍ في منصبه حتى آخر يوم من ولايته. لكن وصول ثلاث مجموعات متناحرة إلى البرلمان والفشل في تشكيل حكومة مستقرة تدير شؤون البلاد وعجزه عن حل البرلمان مرة ثانية قبل مرور عام كامل، كل ذلك قد يضعه في وضع حيث استقالته تشكل المخرج الوحيد من الطريق المسدودة التي وصلت إليها البلاد.
تفيد الأرقام الرسمية والنهائية الصادرة عن وزارة الداخلية، بأن حزب «التجمع الوطني» (وحليفه سيوتي) قد حصلا على 33.15 في المائة من أصوات الناخبين وعلى 10.7 مليون صوت في تحول لم يعرفه سابقاً في حين تمكن 37 من مرشحيه من الفوز منذ الجولة الأولى. وحلّت «الجبهة الشعبية الجديدة»، في المرتبة الثانية بحصولها على 28 في المائة من الأصوات متقدمة على «ائتلاف الوسط» الذي رسا دون عتبة الـ21 في المائة. وتمكن اليسار من إيصال 32 نائباً منذ الدورة الأولى مقابل نائبين فقط لإتلاف الوسط. وأصاب الانهيار أحزاب العهد الثلاثة في الصميم، وكذلك حزب «الجمهوريون» الذي تقلّص ناخبوه إلى 6.75 في المائة بعد أن هيمن طيلة عقود، منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في خمسينات القرن الماضي، على الحياة السياسية في فرنسا باستثناء عهدي الرئيسين الاشتراكيين فرنسوا ميتران وفرنسوا هولاند.
من عتبة السلطة إلى داخلها
منذ صباح الاثنين، دخلت فرنسا في حملة انتخابية جديدة ستمتد إلى منتصف ليل الجمعة – السبت المقبل تمهيداً لجولة الإعادة الحاسمة التي سترسم، بشكل نهائي، صورة التوازنات السياسية في البرلمان الجديد. والسؤال المفصلي الذي سيهيمن على الجدل الانتخابي خلال خمسة أيام عنوانه إمكانية حصول اليمين المتطرف على الأكثرية المطلقة؛ الأمر الذي سيلزم الرئيس ماكرون بتكليف جوردان بارديلا، رئيس «التجمع الوطني» تشكيل الحكومة الجديدة. وفي هذه الحال، سيفرض على رئيس الجمهورية نظام «المساكنة» مع حكومة لا تنتمي إلى التيار السياسي نفسه ولا تتبنى السياسات نفسها في الداخل والخارج. ورغم أن فرنسا عرفت هذا الوضع في السابق مع الرئيسين ميتران وجاك شيراك، فإن الأمور مختلفة تماماً في الوقت الحاضر لأن ماكرون ورئيس حكومته غبرييل أتال وائتلاف الوسط يعتبرون أن اليمين المتطرف لا ينتمي إلى ما يسمى «القوس الجمهوري» الذي تتبنى مكوناته مبادئ وقيم الجمهورية. وإذا وصل «التجمع الوطني» الذي أسسه والد مارين لوبان، مرشحة اليمين المتطرف للانتخابات الرئاسية القادمة، يكون قد اختار هذه المرة السبيل الديمقراطي (الانتخابي) في حين حكم البلاد، إبان الحرب العالمية الثانية في ظل الجيش الألماني المحتل.
ما يهم ماكرون، بالدرجة الأولى، بعد الهزيمة التي لحقت به وبالائتلاف الداعم له، أن يحافظ على حرية الحركة، وألا يقدم السلطة على طبق من فضة لليمين المتطرف وهو من ساق البلاد إلى هذا الوضع الخطير من خلال حلّ البرلمان بشكل فجائي بينما لم يكن الدستور يلزمه بذلك بعد النتائج الكارثية للانتخابات الأوروبية. لذا؛ كان ماكرون أول من سارع إلى الدعوة لإقامة سد منيع بوجه اليمين المتطرف.
فما كادت أولى نتائج الجولة الأولى تعلن حتى بث نصاً جاء في حرفيته: «إن المشاركة المرتفعة في الانتخابات التشريعية تظهر أهميتها بالنسبة لمواطنينا ورغبتهم في توضيح المشهد السياسي». وزاد: «إن خيارهم الديمقراطي يرتب علينا واجبات. لقد حان الوقت، بمواجهة التجمع الوطني، لقيام تجمع عريض، في الجولة الانتخابية الثانية، يكون بشكل واضح تماماً ديمقراطياً وجمهورياً». وبعده، تحدث رئيس الحكومة بشكل أوضح ومباشر بقوله: «إن هدفنا واضح وهو منع التجمع الوطني من الحصول على الأكثرية المطلقة في جولة الإعادة». ودعا أتال مرشحي ائتلاف الوسط الذين حلّوا في المرتبة الثالثة ويحق لهم التنافس في جولة الإعادة، إلى الانسحاب لتسهيل فوز المرشحين المنافسين لمرشحي «التجمع الوطني».
ماكرون وميلونشون على موجة واحدة
للسياسة أحياناً استدارات غير متوقعة. والدليل على ذلك أن خطر اليمين المتطرف جعل من ماكرون وجان لوك ميلونشون، عدوه اللدود وزعيم حزب «فرنسا الأبية» حليفين موضوعيين لمنع تمكن اليمين المتطرف من الأكثرية المطلقة. فكما ماكرون، سارع ميلونشون إلى الإدلاء بتصريح قاطع جاء فيه: «يجب ألا يعطى التجمع الوطني صوتا إضافيا أو أن يحصل على مقعد إضافي». ميلونشون كان، منذ بدء حرب غزة، وخصوصاً مع بدء الحملة الانتخابية وتشكيل تحالف اليسار والخضر، هدفاً لحملات سياسية حادة من ماكرون وأتال وائتلاف الوسط واليمين المتطرف والإعلام يميني الهوى، حيث اتُهم بمعاداة السامية ودعم الإرهاب والطوائفية وفتح أبواب فرنسا أمام الهجرات من أي نوع… وها هو اليوم، يقلب الصفحة ويدعو مرشحي «الجبهة الشعبية الجديدة» ومن بينهم مرشحو حزبه (فرنسا الأبية) الذين حلّوا في المرتبة الثالثة إلى الانسحاب، لا، بل إلى التصويت لصالح مرشحي رجل «قال فيه ما لم يقله مالك في الخمرة» والهدف الأوحد قطع الطريق على مرشحي «التجمع الوطني». وقال ميلونشون وهو ما كررته أطراف تحالفه بالعبارات نفسها: «سوف نسحب مرشحينا، في أي دائرة كانت وفي كل الظروف». وبالمقابل، طالب ميلونشون ائتلاف الوسط بالمعاملة بالمثل.
ينص القانون الانتخابي على حق المرشح الحاصل على 12.5 في المائة من أصوات الناخبين المسجلين في لوائح الشطب التنافس مع المرشحين اللذين حلا في المرتبتين الأولى والثانية. وبحسب وزارة الداخلية، هناك 305 دوائر ثلاثية التنافس و5 دوائر رباعية المرشحين. وما يهم ائتلاف الوسط 129 دائرة، حيث اليسار حلّ في المرتبة الثالث،ة وبالتالي فإن انسحابهم من جهة وتصويت ناخبيهم من جهة ثانية يعزز فرص فوز مرشحي الائتلاف المذكور أو مرشحي اليمين التقليدي. وفي هذا السياق، اعتبر الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا هولند أن لليسار «دوراً رئيسياً» في جولة الإعادة من أجل الدفاع عن المبادئ العليا للجمهورية، بينما الأكثرية النسبية السابقة (أكثرية ماكرون) «تحولت أشلاء» مضيفاً: «لدينا واجب مُلح، حيث يتعين علينا العمل من أجل منع اليمين المتطرف من الحصول على الأكثرية المطلقة» في البرلمان الجديد.
تمهيد طريق مارين لوبان إلى الإليزيه
الثابت في المعمعة الراهنة أمران: الأول، أن الدينامية السياسية التي تمتع بها اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية متواصلة، وسيستفيد منها في جولة الإعادة كما استفاد منها في الدورة الأولى. التجمع الوطني نجح في اجتذاب 1.3 مليون ناخب إضافي عما حصلت عليه مارين لوبان في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية قبل عامين. وها هي اليوم ترى الطريق مفتوحة أمامها للوصول إلى قصر الإليزيه لتحقق ما لم يحققه والدها جان ماري لوبان في العام 2002 عندما أنزل به الرئيس جاك شيراك هزيمة ماحقة. كذلك لن تجد لوبان على طريقها إيمانويل ماكرون الذي هزمها مرتين، في العام 2017 وفي العام 2022.
ويتمثل الأمر الآخر في أن لوبان الابنة نجحت في «تطبيع» حزبها وتجذيره في المناطق الفرنسية كافة، وقلبت صورته من النقيض إلى النقيض وحولته أول قوة سياسية في فرنسا، ومحت من أذهان الناس قصة نشوئه، وأقنعت الكثير من الفرنسيين بطروحاته العنصرية والمعادية للمهاجرين وللإسلام. ومعها يكون الجيل الثاني من عائلة لوبان على وشك الإمساك بناصية السلطة. ويرى محللون السياسيون أن نجاح حزبها في التشريعيات سيكون بمثابة الرافعة التي ستوصلها إلى رئاسة الجمهورية.
وبالمقابل، فإن الماكرونية السياسية التي جاءت بفلسفة «تخطي اليمين واليسار» التقليديين نجحت في إفراغ الساحة لليمين المتطرف ليسرح ويمرح وليقدم لـمارين لوبان فوزاً سهلاً بتمكينها من إعادة انتخابها منذ الجولة الأولى وبنسبة تزيد على 58 في المائة في عرينها شمال البلاد. بارديلا نبّه من أنه لن يقبل تشكيل الحكومة القادمة إلا في حال فوز حزبه بالأكثرية المطلقة. ولكن، إن لم يحصل ذلك، سيبقى «التجمع الوطني» الرقم الصعب في المشهد السياسي الفرنسي لعقود.