قطعاً، سيكون يوم الثلاثاء 19 ديسمبر (كانون الأول) تاريخياً، وسيفرد له المهتمون بالشأن السياسي وبتحولات المجتمع الفرنسي حيزاً خاصاً. وللتأكد من ذلك، تكفي قراءة ما كتبته الصحف الفرنسية في اليوم التالي وما ظهر على شاشات التلفزة وعلى أثير الإذاعات.
فمنذ الصباح، توالت الاجتماعات في القصر الحكومي المسمى «ماتينيون» الواقع في الدائرة السابعة بين إليزابيث بورن، رئيسة الحكومة القادمة إلى السياسة من صفوف اليسار مع مستشاريها والوزراء المعنيين ورؤساء الكتل النيابية التي تشكل الأكثرية النسبية الداعمة للحكومة، ومع قادة حزب «الجمهوريون» اليميني المعتدل.
والغرض من هذه الاجتماعات التي كان قصر الإليزيه يتابعها عن قرب، النظر في تتمات الاتفاق الذي تم الليلة السابقة، في إطار اللجنة البرلمانية المشتركة المؤلفة من 14 عضواً بالتساوي بين مجلسي الشيوخ والنواب بخصوص مشروع قانون الهجرات الذي سقط في البرلمان الأسبوع الماضي. ومشكلته أن الحكومة التي تفتقر للأغلبية المطلقة في مجلس النواب، بحاجة لأصوات اليمين لتمرير القانون الجديد الذي تعمل عليه منذ أكثر من عام. وما حصل داخل اللجنة المشتركة أن الحكومة «تنازلت» لليمين المعتدل الذي يستقي أفكاره ومشاريعه بشأن الهجرات من اليمين المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبن، المرشحة الرئاسية السابقة الذي جعل من الهجرات والخوف على الهوية الفرنسية والتحذير من المخاطر الأمنية والاجتماعية والثقافي حجر الزاوية لآيديولوجيته المتطرفة. وبعدما ذاعت تفاصيل الاتفاق، اعتبر أريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريون»، أن حزبه فرض رؤيته على الحكومة، فيما اعتبرت لوبن أن «آيديولوجية التجمع الوطني (حزبها) حققت نجاحاً بيّناً».
انتقادات حادّة
بيد أن ما أسعد اليمين أثار حفيظة الحزب الرئاسي المسمى «النهضة»، وأيضاً الحزبين المتحالفين معه وهما الحزب الديمقراطي الوسطي وحزب «آفاق» الذي يديره رئيس الوزراء الأسبق إدوار فيليب. كذلك، فإن اليسار بمختلف تشكيلاته (الاشتراكيون، والشيوعيون، وحزب فرنسا الأبية) وأيضاً حزب الخضر، انتقدوا بقوة التحالف الظرفي والموضوعي بين العهد واليمين، وبين تبنّيه أفكاراً يسوق لها اليمين المتطرف المعادي للأجانب وعلى رأسهم الإسلام منذ سنوات، وخصوصاً تخليه عن العهود التي قطعها للفرنسيين إبان حملتين رئاسيتين. وكل هؤلاء حرصوا على تذكيره بأن فوزه في العامين 2017 و2022 برئاسة الجمهورية مدين به لناخبي الوسط واليسار.
وفيما كان اليمين بجناحيه التقليدي والمتطرف يهلل للفوز السياسي الذي حققه على ماكرون، كانت الأكثرية النسبية تجتاز امتحاناً رهيباً، إذ تعالت أصوات نيابية من داخل الحزب الرئاسي تؤكد أنها ستصوت ضد مشروع القانون، ما كشف وجود أزمة مزدوجة: سياسية وأخلاقية. كذلك، فإن ستة وزراء تداعوا للإعراب عن استعدادهم لتقديم استقالاتهم إذا تم السير بالمشروع المذكور وإذا تم تمريره بفضل أصوات نواب اليمين المتطرف البالغة 88 نائباً. وكانت النتيجة أن المشروع صوت عليه بنجاح في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه اليمين بسهولة مساء الثلاثاء، وبعد ذلك مباشرة صوت عليه في مجلس النواب، وكانت النتيجة أن 349 نائباً صوتوا لصالحه فيما عارضه 186 نائباً. واللافت أن ستين نائباً من حزب ماكرون رفضوا المشروع أو امتنعوا عن التصويت، ما يشكل ربع مجموع نوابه.
أسئلة دستورية
لم تتوقف الأزمة عند هذا الحد. ذلك أن الناطق باسم الحكومة أوليفيه فيران أعلن عقب انتهاء الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء برئاسة ماكرون أن وزير الصحة أورليان روسو قدم استقالته من الحكومة، بينما الوزراء الخمسة الآخرون الذين هددوا بسلوك الطريق نفسها لم يصدر عنهم، حتى عصر الأربعاء، أي شيء.
ورغم اندلاع أزمة سياسية غير مسبوقة، فإن إليزابيث بورن دافعت صباح الأربعاء عن القانون الجديد، معتبرة أنه «مسخر لخدمة الفرنسيين»، ومؤكدة أن لا وجود لأي أزمة. إلا أنها بالمقابل اعترفت بأن بعض بنود القانون الجديد الذي نقل إلى المجلس الدستوري، قد تكون مخالفة لمبادئ الدستور. من هنا، فإن كثيرين تساءلوا عن كيفية القبول بقانون مشكوك بدستوريته.
وتبين قراءة لنص القانون كما صوت عليه، وبين مشروع القانون الذي قدمته الحكومة إلى مجلسي الشيوخ والنواب، وجود فوارق كثيرة، حيث إن ما صدر عن النواب يبدو أثر تشدداً لجهة التعامل مع المهاجرين وأبنائهم، وإمكانية استفادتهم من المساعدات الاجتماعية، وتسهيل ترحيل غير المرغوب بهم، وإلزام الذين ولدوا على الأراضي الفرنسية بتقديم طلب الحصول على الجنسية الفرنسية بدل الحصول عليها آلياً، وفرض «كوتا» سنوية معينة لأعداد المهاجرين المرغوب بهم بالتوازي مع منح أوراق قانونية لعمال أجانب ينشطون في قطاعات تفتقر لليد العاملة. ولم يتردد بعض النواب من وصف القانون الجديد بأنه يشبه، إلى حد بعيد، دعايات حزب «التجمع الوطني» الانتخابية.
من الدلائل التي تؤشر لقلق الحكومة أن الرئيس ماكرون اختار التوجه إلى الفرنسيين من خلال مقابلة تلفزيونية مساء الأربعاء وبالطبع يفرض ملف القانون الجديد نفسه. والثابت أن الرئيس الفرنسي كان راغباً بقلب صفحة هذا القانون بأسرع وقت، والحجة التي يلجأ إليها لنفي التحالف الموضوعي مع اليمين المتطرف تقوم على التأكيد بأن القانون لم يقر بأصوات «التجمع الوطني» بناء لعملية حسابية بسيطة. لكن السياسة لا تقوم فقط على احتساب الأصوات، بل أولاً على احترام العهود المقطوعة للمواطنين والناخبين. والحال أن ماكرون ومعه الحكومة قد سقطا في هذا الحساب.