لم يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حرجاً في مغادرة باريس للقيام بزيارة رسمية من يومين «الخميس والجمعة» إلى صربيا فيما البلاد تغرق في أزمة سياسية عنوانها صعوبة الإتيان بحكومة جديدة تحل محل الحكومة المستقيلة المكلفة تصريف الأعمال منذ أكثر من شهر.
ورغم المشاورات المستفيضة التي قام بها ماكرون فما زالت الصورة ضبابية والأزمة تتفاقم.
ماكرون قرر منفرداً، في يونيو (حزيران) الماضي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة خسرها معسكره وحلت «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار والوسط في المرتبة الأولى. لكن رئيس الجمهورية رفض تسمية لوسي كاستيه، مرشحة الجبهة المذكورة، لتشكيل الحكومة العتيدة بحجة افتقارها للأكثرية في الندوة البرلمانية الجديدة والحاجة لـ«الاستقرار المؤسساتي».
وأثار قرار ماكرون حفيظة تشكيلات «الجبهة» التي اتهمته بـ«التنكر» لمبادئ الديمقراطية لا بل «الانقلاب عليها والدوس على نتائج الانتخابات». وقرر حزب «فرنسا الأبية» أحد مكونات «الجبهة» الأكثر تشدداً والذي يقوده المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون السير بمقترح لتنحية ماكرون بسبب «إخلاله بوظيفته» فيما اليسار وعدد من الاتحادات الطلابية دعوا إلى التعبئة الشعبية ونقل المعركة إلى الشارع وحددوا السابع من سبتمبر (أيلول) موعداً لمظاهرات احتجاجية كبرى.
فشل ماكرون
لا يبدو حتى اليوم ورغم مرور ثمانية أسابيع على الإعلان عن نتائج الانتخابات أن رئيس الجمهورية قد عثر على الحل الذي يمكنه إغلاق ملف الفراغ الحكومي. والثابت أنه لا يريد تسليم مفاتيح السلطة التنفيذية لليسار إن مع وزراء من «فرنسا الأبية» أو من دونهم. وأمله الأكبر كان أن ينجح في إحداث انقسام داخل جبهة اليسار بحيث ينفصل عنها الاشتراكيون ويقبلون الانضمام إلى حكومة مختلطة من المعسكر الرئاسي المسمى «الكتلة الوسطية» ومن اليمين التقليدي ممثلاً بحزب «الجمهوريون» الذي يتمتع بـ47 مقعداً في البرلمان.
بيد أن جبهة اليسار ما زالت، حتى اليوم، صامدة رغم بروز تيار داخل الحزب الاشتراكي يميل إلى الاستجابة لدعوة ماكرون والابتعاد عن «فرنسا الأبية». كذلك، فإن لوران فوكيز، رئيس حزب «الجمهوريون»، رفض انضمام حزبه إلى الكتلة الوسطية «معسكر ماكرون» وربط دعمه لحكومة يشكلها بتبينها لمجموعة من النصوص التشريعية التي يريد أن يقرها البرلمان الجديد.
ومن غير الاشتراكيين من جهة، واليمين التقليدي من جهة أخرى، لن ترى حكومة النور إلا إذا أراد ماكرون الابتعاد عن الأحزاب السياسية والذهاب باتجاه حكومة من المسؤولين على المستويات المحلية بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.
ولذا، بادر الأربعاء إلى الاجتماع، فرادى، مع عدة شخصيات محلية، من اليمين واليسار لاستكشاف مخرج ما يمكنه من التغلب على أزمة كان هو شخصياً في أساس اندلاعها. كذلك لم يطو بعد صفحة الإتيان برئيس حكومة من «التقنيين» أي من غير لون سياسي لفترة محددة بانتظار أن يتمكن الربيع القادم من حل البرلمان مجدداً.
هذه الهموم حملها ماكرون معه إلى بلغراد بعد أن أعلن مساء الأربعاء انطلاق الألعاب البارا-أولمبية «رياضات المعاقين» بحضور مجموعة من القادة، وذلك في احتفال أريد له أن يضاهي الألعاب الأولمبية الأم. لكن ماكرون لم يلجأ هذه المرة إلى إعلان «هدنة أولمبية» جديدة رغم الرهان على أن الألعاب ستجتذب أنظار المواطنين بحيث تتراجع السياسة إلى المقام الثاني كما حصل في الأسابيع الأخيرة. من هنا، جهدت مصادر الإليزيه في تبرير الزيارة إلى صربيا من خلال إبراز أهميتها من عدة جوانب أولها التأكيد على أن باريس تسعى لإلحاق بلغراد بالركب الأوروبي علماً بأن صربيا عازمة على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على غرار دول وسط وشرق أوروبا. ومن المفترض أن تكون أوكرانيا ومولدوفا الأقرب للالتحاق ببروكسل.
تأتي زيارة ماكرون إلى بلغراد تلبية لدعوة من الرئيس الصربي ألكسندر فوتيتش الذي زار باريس في أبريل (نيسان) الماضي. وبهذه المناسبة أعلن ماكرون أن «مستقبل صربيا داخل الاتحاد الأوروبي وليس في مكان آخر». وصربيا قدمت ترشيحها رسمياً للانضمام إلى الاتحاد في العام 2009. إلا أن قبول عضويتها يثير الكثير من الاعتراضات بالنظر للعلاقات القوية التي تربطها بروسيا. ورغم الضغوط الأوروبية والأميركية، فقد رفضت بلغراد دوماً السير بالعقوبات التي فرضها الأوروبيون على روسيا بسبب حرب أوكرانيا. كذلك، فإن التوترات القائمة بين بلغراد وكوسوفو تثير مخاوف الأوروبيين ومنهم فرنسا. لكن ماكرون الذي دعا أكثر من مرة الطرفين لتعميق «التطبيع» بينهما، نبه بريشتينا من مواصلة «الإجراءات الأحادية الجانب» التي من شأنها إعاقة عملية التطبيع بين الطرفين وتسيء إلى سعي الطرفين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
عقد شراء طائرات رافال
غير أن الاعتبارات الاستراتيجية والسياسية ليست وحدها التي تدفع ماكرون للابتعاد عن فرنسا إذ ثمة عقود ترغب فرنسا بأن يتم توقيعها بين الطرفين وأبرزها مشروع شراء بلغراد 12 طائرة فرنسية من طراز «رافال» التي تنتجها شركة «داسو» للصناعات الجوية. ولا تجد باريس غضاضة ببيع هذه الطائرات لدولة قريبة من موسكو وتتناقض مع الغرب في مواقفها السياسية من الحرب الأوكرانية مع باريس والعواصم الأوروبية والمعسكر الغربي بشكل عام.
وبحسب الرئيس الصربي، فإن بلغراد مستعدة لتخصيص 3 مليارات دولار لهذه الطائرات القتالية من الجيل الرابع علماً بأن أنظمتها من السلاح تعود جميعها للعصر السوفياتي. وفي مقابلة مع «وكالة الصحافة الفرنسية»، قال فوتيتش إنّ جميع «الطائرات الاعتراضية» الصربية تقريباً و«جميع الطائرات المقاتلة تأتي من روسيا» مضيفاً: «علينا أن نتطوّر ونغيّر عاداتنا وكل شيء آخر من أجل إعداد جيشنا».
ورداً على ذلك، قالت مصادر الإليزيه، الاثنين، في معرض تقديمها لزيارة ماكرون، إنه يمكن لبلغراد أن تتخذ «الخيار الاستراتيجي» المتمثّل في «التعاون مع دولة أوروبية» لتجديد أسطولها. وأبدت المصادر المشار إليها نوعاً من التفاؤل في أن تفضي المحدثات القائمة بين شركة «داسو» والسلطات الصربية إلى اتفاق لتزويد القوات الجوية الصربية بالمقاتلات التي تطلبها خلال زيارة ماكرون. ووصف فوتيتش العقد بـ«الكبير جداً» بالنسبة لصربيا وبأنه «ليس صغيراً بالنسبة لفرنسا» معرباً، هو الآخر، عمن أمله بتوقيع العقد بمناسبة الزيارة عينها. كذلك تأمل باريس بأن يكون لـ«شركة كهرباء فرنسا» دور في مشاريع بلغراد بإعادة إطلاق برامجها النووية السلمية لإنتاج الكهرباء.
وجاء في بيان صادر عن قصر الإليزيه أن العلاقات بين باريس وبلغراد تتطور باستمرار منذ زيارة ماكرون الأولى للعاصمة الصربية في العام 2019 وأن هدف الزيارة الجديدة «تعزيز العلاقات الدفاعية والاقتصادية وفي مجالات الصحة والطاقة والثقافة» مضيفاً أن الطرفين يعملان معاً في قطاع الذكاء الاصطناعي. وختم البيان بتأكيد أن ماكرون «ما فتئ يؤكد انتماء صربيا الأوروبي وعزمه على الاستمرار في مواكبتها» في هذا السبيل.
المصدر / الشرق الأوسط