أخبارأوروبا

هل يكتب الغزو الروسي لأوكرانيا نهاية “الناتو”؟

الحلف يقف في مفترق طرق وبينما يعتقد البعض أن أمامه فرصة تمدد يذهب آخرون إلى أن العالم إزاء تحولات في النظام الدولي.

أدّى سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف “وارسو” وانضمام جميع أعضائه، باستثناء روسيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى تراجع حماس الولايات المتحدة لدعم الحلف، وظهور دعوات عديدة إلى حل الحلف بعد تلاشي عدوه الأول وتراجع التزام أعضائه الثلاثين بالإنفاق الدفاعي على الحلف، لكن وصول الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يعد من أشد مؤيدي “الناتو”، إلى الرئاسة أعاد التفاؤل بإحياء العلاقات عبر الأطلسي وتعزيز الحلف الذي يصفه بأنه “أهم تحالف عسكري في تاريخ العالم”، بيد أن هذا الاتجاه تعرض الآن إلى اختبار صعب مع الغزو الروسي لأوكرانيا الذي يمثل ضربة غير مسبوقة لطموحات الحلف واستراتيجيته للتوسع شرقاً، أو على الأقل ردع خصومه عن تحدي مصالحه وتهديد شركائه.

 

يرى بعض المراقبين أن حلف شمال الأطلسي يقف أمام مفترق طرق في ظل تمسكه بسياسة التوسع شرقاً في مقابل تنامي التهديدات الروسية وسط إخفاقه في ردع الهجوم الروسي على حليف محتمل، بينما يذهب الآخر إلى أن الحرب الروسية على أوكرانيا تمثل فرصة لتمدد الحلف والتكشير عن أنيابه، لا سيما بعد قراره نشر قواته للرد السريع للمرة الأولى في مسعى لتعزيز جناحه الشرقي بمواجهة الاجتياح الروسي لأوكرانيا.

 

مصير متأرجح لـ”الناتو” بعد عمر السبعين

في نهاية ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أحيا حلف شمال الأطلسي (ناتو) ذكرى تأسيسه السبعين في أجواء ملتبسة، بعد أن نجا مع انتخاب “بايدن” من مصير مجهول نتيجة لسياسة سلفه الذي هدد كثيراً بالانسحاب من الحلف الذي تأسس بقيادة أميركية بعد توقيع معاهدته بواشنطن في 4 أبريل (نيسان) 1949 أعقاب الحرب العالمية الثانية لمنع الاتحاد السوفياتي من التوسع في أوروبا وتوفير مظلة أمنية وجدار عسكري وسياسي غربي أمام الشيوعية والمعسكر الشرقي، وهو ما أدى إلى قيام الاتحاد السوفياتي بتشكيل “حلف وارسو” مع 7 دول شيوعية من أوروبا الشرقية عام 1955، ونتج عنه تعاظم أهمية “الناتو” الذي ظل يتوسع حتى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 لدرجة أنه ضم بين صفوفه دولاً متصارعة مثل اليونان وتركيا التي تعد ثاني أكبر جيش في الحلف من حيث عدد الأفراد العسكريين بعد الولايات المتحدة.

 

وأدى سقوط الاتحاد السوفياتي وتبني الولايات المتحدة لأولوية الحرب على الإرهاب إلى ظهور الخلافات بين الحلفاء بداية من رفض ألمانيا وفرنسا لغزو العراق عام 2003، وصولاً إلى تنامي نظرية “الاستقلالية الاستراتيجية” لأوروبا في مواجهة الاعتماد على الولايات المتحدة كمزود رئيس للأمن للقارة العجوز، وهو ما تجلى في صدام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وترمب حينما دعا عام 2018 إلى بناء “جيش أوروبي”، ووصف الأول للحلف بأنه يعاني “موتاً دماغياً”، وسط ضغوط ترمب على الحلفاء لزيادة مساهمتهم في النفقات الدفاعية له.

ويرى ظافر العجمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت ومدير “مجموعة مراقبة الخليج”، “أن دور حلف (الناتو) يعاني التراجع منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وحلف (وارسو) المناوئ، حيث أصبح الحلف (من دون مهمة)، مما جعله يتوسع أكثر وكأنه يبحث عن مهام جديدة أو دول لديها مشاكل ليحل مشاكلها، لكن انغماسه في كثير من الأزمات كشفت عن هشاشة هذا الحلف، من خلال انسحابات متكررة وعجولة من العراق وأفغانستان وليبيا وغيرها، وكأنه لم يعد قادراً على تنفيذ المهام المناطة به، فتحول منذ أكثر من 5 سنوات إلى مزود للأمن الناعم المتمثل في التدريب والاستشارات والاستخبارات، فوجد ضالته في الدول التي تتبع (الناتو) ولا تنتهي علاقتها بالانضمام كعضو به، مثل بعض دول الخليج وشرق أوروبا، فركز على هذا المجال وترك شأن الدول المنضمة إليه”.

 

وأضاف، “ما حدث خلال السنوات الأخيرة أدى إلى تعمق الخلافات بين الأعضاء مثل الخلاف (الفرنسي – التركي) و(التركي – اليوناني) وغيره، وزاد عن هذا الانكشاف النظر إلى الحلف على أنه عبء على الولايات المتحدة الأميركية بنفسها والتهديد بالانسحاب منه أو تخفيض مساهمتها، حيث تدفع ما يوازي 4.2 في المئة من دخلها القومي لتمويل الحلف، بينما مساهمة ألمانيا لا تصل إلى 1 في المئة من دخلها، ما أدى إلى ضعف حماس والتزام الولايات المتحدة تجاه (الناتو)”.

 

وأوضح العجمي لـ”اندبندنت عربية”، “أن خذلان الحلف لأوكرانيا غير العضو بـ(الناتو)، أو حتى أي خذلان محتمل لحليف أساس به أمر وارد جداً، مرده إلى المنهجية التي اتبعها (الناتو) خلال السنوات الأخيرة، فلم يعد كما كان، حيث بدأ تشكيل أحلاف موازية وبديلة مثل الحلف الجديد الأنغلوساكسوني، الذي تشكل بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا لمناوئة الصين”. يتابع، “لا أستطيع القول إن الغرض من الحلف انتهى، لكن لم يعد (الناتو) كما كان، ولذلك جاءت خيبة أمل أوكرانيا في أن يقف الحلف إلى صفها، وكانت آمالها أكثر من الاعتبارات الحقيقية والموضوعية للحلف، وهذا كشف مدى هشاشة التزام (الناتو) تجاه حلفائه الحاليين والمستقبليين”.

بدوره، اعتبر أحمد عليبة، الباحث بمركز “الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية” بالقاهرة، “أن ما حدث في أوكرانيا يمثل السيناريو الطبيعي للعلاقة بين روسيا و(الناتو) والأداء المتوقع من الأخير رداً على الغزو”، مشيراً إلى “أن سلوك (الناتو) في الرد على روسيا ينبع من منهجه في وضع روسيا في وضع المسؤولية والتورط بالأزمة الأوكرانية من أجل اتخاذ خطوة إضافية لتعزيز بنيته الدفاعية في دول الجدار الشرقي لأوروبا، مع وقوع حالة من سباق التسلح الصامت في أوكرانيا بين الجانبين، حيث تُعد الأخيرة منطقة عازلة في رؤية كل من الجانبين تجاه الآخر”.

 

وأضاف في تصريح خاص، “إن ما حدث لا يزال الجولة الأولى من الصراع بين روسيا و(الناتو)، التي فازت بها موسكو، لكن من المبكر الحكم على مسار التحولات الراهنة في النظام الدولي، لكن حتى الآن التوقيت السياسي مناسب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وغير مُواتٍ لنظيره الأميركي بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان والفوضى الأمنية بالشرق الأوسط نتيجة ترتيبات ما بعد انتهاء حقبة الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان”.

 

الأزمة الأوكرانية… هل هي نهاية لصلاحية “الناتو”؟

أعادت الأزمة الأوكرانية الجدل حول مصير حلف “الناتو” إلى الواجهة، وبعد سنوات من اتهامه بالضعف وعدم الفعالية نتيجة التباينات المستمرة بين الحلفاء ونجاعة سياسة موسكو لتقويض الحلف من خلال تعزيز العلاقات العسكرية والاقتصادية مع أعضائه البارزين من تركيا وألمانيا، وصولاً إلى تحدي الحلف عسكريا بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يمثل نهاية لاستراتيجية الحلف للتمدد شرقاً، وربما تصبح نقطة تحول مفصلية في تاريخ الحلف الذي قد يلجأ إلى القبول بالضمانات الأمنية التي تطالب بها روسيا من أجل الوصول إلى نهاية للحرب الدائرة في البلد الذي ظل حتى الساعات الأخيرة قبل الغزو يطالب بالانضمام للحلف. وقد وجه الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي انتقادات حادة لحلف “الناتو” الذي اتهم دوله “بالخوف من ضم بلاده”. وقال “إنه سأل 27 قائدا أوروبياً عن عضوية بلاده في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكن لم يجبه أحد”.

 

وترى إيمان زهران، الباحثة في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي، “إنه عند النظر لمستقبل حلف (الناتو)، يجب تقييم ما يتعلق بفشل الحلف في احتواء الأزمة ورأب الصدع الروسي – الأوكراني خلال الفترات السابقة للهجوم الذي بدأ فجر الخميس الماضي، مقابل الدفع بآلية الوساطة الأوروبية لتجنب السيناريو القائم حالياً بالأزمة التي كشفت عن حجم التراجع الاستراتيجي والجيوسياسي لحلف (الناتو) الذي أصبح بحاجة إلى إعادة تقييم استراتيجيته بشكل منتظم تجاه التغير في حجم التهديدات الأمنية من جهه، ومن جهة أخرى استحداث أطر لرأب الصداع مع القوة الروسية، والتوافق حول آلية التعامل مع سياسات موسكو المعلنة حول استعادة “روسيا العظمى”.

وقالت زهران، في تصريح خاص، “من غير المتوقع أن يلعب (الناتو) دوراً عسكرياً، أو الدفع بإعلان حاسم وأكثر وضوحاً في الحرب الأوكرانية، على الرغم من تعزيز الحلف لوجوده في أوروبا الشرقية، ونشر سفن وطائرات حربية إضافية وقوات النخبة الأميركية 82 المحمولة جواً، والمتخصصة في الاستجابة السريعة لعدة اعتبارات، أبرزها أن أوكرانيا لم يتم اعتمادها بصفة رسمية كعضو بالحلف الذي لا يمتلك استراتيجية واضحة للعمل، خصوصاً في مثل تلك النزاعات، فخبرة (الناتو) العسكرية تلخصت بالحرب الأفغانية ذات المنظور الأميركي، فضلاً عن التباين في الرؤى الاستراتيجية بين الدول الأعضاء”.

 

تضيف الباحثة، أن “الأزمة الروسية – الأوكرانية، لن تعيد تداعياتها فقط تشكيل مستقبل حلف (الناتو) وإعادة النظر في ميثاقه، وحجم تعهداته، وآلية التحرك العسكري، والإطار المؤسسي الحاكم لبيئة عمل الحلف، لكنها كذلك أزمة كاشفة عن التغير المرن في النسق الدولي، ففي الوقت الذي نظرنا من خلاله إلى الانسحاب الأميركي من أفغانستان منتصف 2021، وتباينت التحليلات حول نهاية عصر الأحادية القطبية أم لا، فإن تحركات موسكو تجاه أوكرانيا كشفت بما لا يدع أي مجال للشك، عن أن النظام الدولي انتقل إلى عالم متعدد الأقطاب، بما يترتب عليه من واقعية التعامل، والقبول بأن الترتيبات السياسية والأمنية ذات المنظور الأميركي التي سادت منذ التسعينيات وحتى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين انتهت، ويجب إعادة مراجعتها، في ظل إعادة تموضع موسكو في مجالها الحيوي، وفرضها لقواعد سياسية وأمنية جديدة”.

 

قوة “الرد السريع” وتجديد دماء الحلف

وعلى الرغم من إعلان حلف شمال الأطلسي أنه لن يرسل قوات قتالية إلى أوكرانيا، يرى البعض أن الأزمة الأوكرانية أعطت “قبلة الحياة” لـ”الناتو” من أجل إعادة تجديد استراتيجيته التوسعية، وقد فعل الحلف “خطط الدفاع” والمادة الرابعة من ميثاقه الخاصة بالتشاور بين الدول الأعضاء للرد على أي تهديد أو هجوم محتمل على أراضيه، مع تأكيد التزامه التام بالمادة الخامسة التي تعتبر الهجوم على أي دولة عضو بالحلف هجوماً على جميع الحلفاء، كما أعلن عقب قمته الطارئة، الجمعة، نشر قوته للرد السريع للمرة الأولى في التاريخ في مسعى لتعزيز جناحه الشرقي بمواجهة الاجتياح الروسي لأوكرانيا.

 

ويذهب محمد حسن، الباحث المتخصص في السياسات الدفاعية، إلى “أن الحرب الروسية – الأوكرانية، لا تعني انتهاء صلاحية حلف (الناتو)، أو فشله الوظيفي من الناحية العسكرية”. واعتبر “أنه من المبكر القول والجزم بهذا”، مؤكداً القدرات العسكرية والاستخباراتية الهائلة للحلف”.

وتابع، “لا يزال الحلف الأضخم والأكبر في التاريخ، ليس فقط من حيث الجانب الكمي لإعداد أعضائه، وإنما من الناحية النوعية، إذ يضم أشد القوى النووية الغربية، وهي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، علاوة على مخزون ضخم من الكادر البشري يصل إلى 3.9 مليون جندي، وترسانة أكثر ضخامة من المقاتلات (6 آلاف مقاتلة وقاذفة) ونحو (300 قطعة بحرية) ما بين كورفيتات ومدمرات وحاملات طائرات وغواصات، وبعيداً من المقاربات الكمية والكيفية، فإن الحلف لديه الحد الأدنى من القدرة على تنفيذ خطط دفاعية تكتيكية أكثر منها استراتيجية، وذلك على جداره الشرقي قبالة طاحون الحرب الروسية الأوكرانية”.

ويوضح الباحث المتخصص في السياسات الدفاعية، “أن الحلف عكف خلال السنوات الخمس الماضية على تدعيم قدرات الدفاع والردع لديه، قياساً بالتطورات المتسارعة للآلة العسكرية الروسية واتساع نطاق تهديدها للقارة العجوز. وكانت آخر تلك الاستراتيجيات الدفاعية بهدف الردع التي اعتمدها في أكتوبر (تشرين الأول) من 2021، حين وافق وزراء دفاع الحلف على خطة لردع روسيا وبتدعيم الاستعدادات للتعامل مع هجمات متزامنة من قبل روسيا بدول البلطيق ومنطقة البحر الأسود، فضلاً عن استثماره في قوة “الرد”، وتتألف من 40 ألف عنصر مع وحدات جوية وبحرية وبرية، تقدم ميزة التعامل السريع مع مختلف التهديدات الطارئة، خارج التهديدات النووية بالطبع”.

 

وتسهم الدول الأعضاء عبر تخصيص قوات سنوياً على أساس دوري في تشكيل قوة الرد السريع، بينما يتولى قيادتها العامة “القائد الأعلى للحلف في أوروبا”، وهو حالياً الجنرال الأميركي تود وولترز. ووصف “وولترز” تفعيل القوة بـ”اللحظة التاريخية”.

 

وصممت “قوة الرد” التابعة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) التي تضم 40 ألف جندي لتكون جاهزة على مدار العام للاستجابة في غضون يومين أو ثلاثة لأي أزمة أمنية تطرأ. وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية، “يتعين على جميع أعضاء الحلف الثلاثين الموافقة على تفعيلها، وهو أمر قاموا به، الخميس، على الرغم من أن عناصرها لن ينتشروا في أوكرانيا، غير المنضوية في (الناتو)”.

 

وأشار الباحث إلى أنه “بالنظر لأوكرانيا كدولة غير عضو في حلف (الناتو)، يمكن تفهم موقف الحلف من الشجب والإدانة تجاه الغزو الروسي، لكن الحلف أصبح للتو في مرمي نيران القوات الروسية، ونشاطات أجهزتها الاستخباراتية، ما يعني مثوله وقدراته التعبوية والعملياتية والاستخباراتية أمام أكبر اختبار منذ تأسيسه. فالغزو الروسي لأوكرانيا يمثل أخطر تهديد لمنظومة الأمن الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية”.

وتقود حالياً “قيادة قوة الحلف الأطلسي المشتركة”، ومقرها برونسوم بهولندا، “قوة الرد” التابعة للحلف بأكملها. ولم يقدم الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، الجمعة، أي تفاصيل عن الوجهة التي سيتم إرسال عناصر “قوة الرد” إليها، قائلاً، “إن القرار في ذلك يعود إلى القائد العسكري الأعلى لحلف شمال الأطلسي”، وفق ما ذكرته وكالة الصحافة الفرنسية.

المصدر: اندبندنت عربية

إغلاق