في خطاب ألقته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لايين، عن حال الاتحاد الأوروبي في سبتمبر (أيلول) 2023، عبّرت السيدة الألمانية التي تولت عدداً من المناصب الوزارية في عهد المستشارة أنغيلا ميركل آخرها منصب وزيرة الدفاع (2013 – 2019)، عن أملها في أن تكون الانتخابات البرلمانية الأوروبية في يونيو (حزيران) المقبل «الوقت المناسب لاتخاذ القرار بشأن المستقبل الذي يتمناه الناخبون وأوروبا التي يريدونها». وأكدت أن «اتحادنا اليوم يعكس رؤية أولئك الذين حلموا بمستقبل أفضل بعد الحرب العالمية الثانية»…
لا جدال في شأن الحلم الأوروبي – الذي بدأ مع المؤسسين – بمستقبل آمن وسلام دائم وازدهار وافر بعد حربين عالميتين قاسيتين وما سبقهما من حروب على مدى قرون في قارة فسيفسائية معقدة. أما قول فون در لايين إن الاتحاد الأوروبي يعكس تلك الرؤية اليوم ففيه الكثير من المبالغة والقليل من الواقع. ويكفي هنا أن نتذكر حرب البوسنة التي خلخلت استقرار منطقة البلقان وأوروبا كلها، وحرب أوكرانيا وروسيا التي ستكمل بعد أقل من شهر عامها الثاني من دون أن يكون في الأفق ما يشير إلى خط النهاية فيها. وإذا كان صحيحاً أن هاتين الحربين لا تدخلان ضمن النطاق الجغرافي للاتحاد الأوروبي، فإن الصحيح أيضاً أنهما طالتاه بتداعياتهما العميقة، والأصح أنهما أثبتتا عجز التكتل عن التعامل معهما استباقياً بمعنى الحؤول دون وقوعهما، واستلحاقياً بواقع العجز عن إنهائهما.
واليوم يقف الاتحاد الأوروبي بدوله السبع والعشرين وسط لجج متلاطمة، أولاها جيوسياسي وآخرها اقتصادي، مع سلسلة متنوعة من المشكلات الممتدة بينهما.
معضلة دعم أوكرانيا
يقول كارل بيلدت، رئيس الوزراء السويدي سابقاً (1991 – 1994)، إن العام 2024 مليء بالتحديات للاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها حكماً الحرب في أوكرانيا حيث «سيطيل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النزاع لأطول فترة ممكنة»، على حد تعبيره.
ولا شك في أن أوروبا كلها تتلظى بين نارين هنا، نار انقطاع الغاز الروسي عنها بقرار من الاتحاد نفسه مدفوعاً بضغط أميركي، مع ما يرتبه ذلك من أكلاف باهظة على موازنات الدول وجيوب الأفراد، ونار استمرار الدعم العسكري لكييف الذي استنزف مليارات اليوروهات من خزائن عواصم الاتحاد ومخازن أسلحة جيوشها.
وعلى الرغم من الخلافات بين الدول الأعضاء على حجم المساعدة المطلوبة لأوكرانيا، فإنها كلها منضوية تحت لواء استمرار الدعم، مدركةً أن الرئيس الروسي صار قادراً أكثر على خوض حرب طويلة المدى، مراهناً على التعب الأوروبي من الاستنزاف الاقتصادي، وكذلك على الاحتمال الكبير لفوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تقام الخريف المقبل وبالتالي تراجع دعم واشنطن لكييف كون ترمب يؤكد مراراً وتكراراً أنه لو كان رئيساً لما اندلعت هذه الحرب…
في ظل هذا الواقع، لا يجد الأوروبيون «الاتحاديون» مفراً من مواصلة ما غرقوا فيه: دعم أوكرانيا. وهنا يقول كارل بيلدت: «لإنهاء الحرب، يجب على الأوروبيين أن يثبتوا لبوتين أن تصميمهم ثابت وأن يتخذوا خطوات واضحة لإعداد أوكرانيا لمستقبل من السلام، بغض النظر عما يحدث في واشنطن».
وقد رأينا وزير الخارجية الفرنسي الجديد ستيفان سيجورنيه يجزم من كييف قبل أيام بأن فرنسا ستواصل الدعم العسكري لأوكرانيا، واعداً أيضاً بتشجيع شركات فرنسية على الاستثمار في الدولة الغارقة في الحرب.
لكن لب المشكلة يبقى في كلفة الدعم ومدته، وكيف ستستطيع أوروبا أن تتعامل مع واقع ما بعد الحرب من حيث مصير أوكرانيا بنظامها وجغرافيتها، والأهم من حيث العلاقة مع روسيا.
غزة والشرق الأوسط
قبل أيام، حض وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي إسرائيل على القبول بحل الدولتين مع الفلسطينيين بعد الحرب في غزة.
هذه الحرب أغرقت الشرق الأوسط في اضطرابات جديدة وأثارت مخاوف من صراع أوسع نطاقاً، ولا حاجة هنا إلى سرد ما يحصل في لبنان والعراق وبالطبع البحر الأحمر.
مرة جديدة، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام معضلة التأييد «الطبيعي» لما يعتبره «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس» وفي الوقت نفسه حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وبالتالي في العيش ضمن حدود دولة مستقلة.
والواقع المرّ أن بروكسل لا تستطيع الدفع في اتجاه سلام حقيقي لأن المفتاح لذلك موجود في مكان آخر. وبالتالي تجد الحكومات الأوروبية أنفسها ملزمة بمواصلة دعم الموقف الإسرائيلي، في موازاة استهوال ما يحصل من مجازر بحق الفلسطينيين في غزة، والاكتفاء بدور الداعم المالي الأكبر للشعب القابع تحت الاحتلال والقيام بحراك دبلوماسي لا يسمن ولا يغني من جوع.
والحال الأوروبي لا يختلف حيال ما يجري في البحر الأحمر من تصعيد يقوده الحوثيون. ويبدو موقف بروكسل شبيهاً بموقف المراقب. وها هو فالديس دومبروفسكيس، نائب رئيس المفوضية الأوروبية، الذي يراقب اقتصاد التكتل، يقول إن حركة الشحن عبر البحر الأحمر انخفضت 22% في شهر واحد بسبب هجمات الحوثيين المدعومين مع إيران. ويضيف: «لم يكن هناك تأثير يذكر على أسعار الطاقة أو تأثير بشكل عام على أسعار السلع حتى الآن. لكننا نرى تأثيرا على أسعار النقل التي ارتفعت… إنه بالتأكيد عامل خطر». ويلاحظ السياسي اللاتفي أن «التأثير الاقتصادي الأوسع على أسعار المستهلكين واقتصاد الاتحاد الأوروبي بوجه عام سيعتمد بدرجة كبيرة على مدة هذه الأزمة… وبالتالي، من الضروري اتخاذ إجراء سريع».
لكن ما هو هذا الإجراء؟
تحدث مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي عن الاتفاق «من حيث المبدأ» على تشكيل «مهمة بحرية لحماية السفن التجارية في البحر الأحمر»… وفي انتظار عمل ملموس، يأتي الرد الميداني من الولايات المتحدة وبريطانيا التي خرجت من الاتحاد في 31 يناير (كانون الثاني) 2020.
شرق آسيا
لا يستطيع الاتحاد الأوروبي عدم التفاعل مع ما يجري في محيط الصين.
«لدينا مصلحة عميقة في تحقيق الاستقرار في شرق آسيا أيضاً. وفي ما يتعلق بمسألة مستقبل تايوان، فإن كل كلمة لها أهميتها، ويظل الحذر هو السياسة الأكثر حكمة. يجب على تايبيه وبكين تشكيل علاقتهما المستقبلية مع مرور الوقت في سلام ودون أي نوع من الإكراه. إن الصراع حول مستقبل تايوان سرعان ما قد يتحول إلى صراع بين الولايات المتحدة والصين، وستكون له عواقب عالمية عميقة»، كما يقول كارل بيلدت.
أما جوزيب بوريل فيقول: «آسيا هي المنطقة الأكثر ديناميكية في العالم، والأزمات الدولية الرئيسية تؤثر في جنوب شرق آسيا. وبالتالي على الاتحاد الأوروبي أن يكون أكثر حضوراً وانخراطاً في هذه المنطقة المحورية. والعمل مع رابطة آسيان وتعميق شراكتنا الاستراتيجية أمر أساسي للقيام بذلك».
تتألف رابطة آسيان من الدول الآتية: بروناي، بورما (ميانمار)، كمبوديا، إندونيسيا، لاوس، ماليزيا، الفلبين، سنغافورة، تايلاند، فيتنام. وتضم الدول العشر 647 مليون نسمة مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 2.9 تريليون دولار.
لا عجب أن تواجه منطقة تشهد نمواً اقتصادياً مطّرداً، ديناميكيات جيوسياسية كبيرة، خصوصاً في ظل التنافس المتعاظم بين الولايات المتحدة والصين. وفي الوقت نفسه، تتصاعد التوترات الأمنية في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، حيث تؤدي المطالبات الإقليمية المتداخلة، وإجراء التدريبات البحرية إلى توترات بين الجيران. وتتفاوض رابطة «آسيان» والصين على مدونة قواعد السلوك في بحر الصين الجنوبي، لكن يبدو من غير المرجح أن تنتهي هذه المحادثات في وقت قريب. وبالتوازي مع ذلك، أصبحت الولايات المتحدة أكثر نشاطا في المنطقة، مع التمسك بمبدأ حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي.
للدلالة على أهمية هذه المنطقة بالنسبة إلى بروكسل، أن الاتحاد الأوروبي هو ثالث أكبر شريك تجاري لـ«آسيان» بعد الصين والولايات المتحدة، وبلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 280.6 مليار دولار أميركي عام 2019. منذ عام 1998، تسجل منطقة «آسيان» فائضاً تجارياً مع الاتحاد الأوروبي، بلغ ذروته عند 54.6 مليار دولار عام 2017. وكان الاتحاد الأوروبي أيضًا ثالث أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة عام 2019 بتدفقات بلغت 16.2 مليار دولار، وهو ما يمثل 10.1في المائة من الاستثمار الأجنبي المباشر هناك.
يلتقي وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي نظراءهم من دول «آسيان» في الثاني من فبراير (شباط) المقبل في بروكسل، ويرأس الاجتماع جوزيب بوريل. وسيتركز البحث على تعزيز «الشراكة الاستراتيجية» التي أطلقاها عام 2020، والاتفاق على عقد مؤتمرات قمة منتظمة على مستوى القادة.
هذا يقود إلى السؤال عن مدى التاثير «الميداني» للاتحاد الأوروبي هناك، والجواب أنه شبه معدوم في ظل تصادم العملاقين الأميركي والصيني، صاحبي الاقتصادين الأول والثاني عالمياً.
العائلة الاتحادية
هذه التحديات الجيوسياسية والجيو – اقتصادية الكبرى وسواها، تنعكس بقوة على داخل العائلة الأوروبية. ولئن كان الاتحاد الأوروبي قد نجح بعض الأحيان في تجنب العواصف التي تحملها أزمات كبيرة، فإنه يبدو مشوباً بكثير من الهشاشة هذه المرة.
ولعل أول التحديات المقبلة المتأثرة بكل ما سبق مسألة توسيع الاتحاد ليشمل دولاً مثل أوكرانيا ومولدوفا، وأخرى في غرب البلقان مثل ألبانيا ومقدونيا الشمالية ومونتينيغرو وكوسوفو.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة، ففي زمن الحروب نرى الدول تعود إلى لغة السيادة الوطنية وكذلك التدابير الحمائية للاقتصاد، وهو ما يناقض فلسفة الاتحاد الأوروبي. لذلك نرى تصاعد الاتجاهات السيادية المشككة في صواب توسيع الاتحاد وتحقيق مزيد من الاندماج بين أعضائه. وهي لغة تعلو أصواتها في هولندا والمجر وبولندا وسلوفاكيا مع القوى الحاكمة، وفي صفوف الأحزاب المعارضة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وفنلندا…
لكن المشكلة الكبرى تكمن في الأمن، فكل أعضاء الاتحاد الأوروبي من الاندماجيين والمتحفظين والمشككين يحتاجون إلى الغطاء الأمني الذي يوفره حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وبالتالي لا يبدو المستقبل الأوروبي متعلقاً بديناميكيات الاتحاد بمقدار تعلقه بما سيجري على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي بعد أشهر…