فيما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يستمتع بزيارته إلى الهند حيث يحظى بصفة ضيف الشرف بمناسبة احتفال نيودلهي بـ«يوم الجمهورية»، وما رافقه من عرض عسكري شاركت فيه طائرتان مقاتلتان فرنسيتان من طراز «رافال» و150 فرداً من «القوة الأجنبية»، فإن رئيس حكومته الشاب غبريال أتال يواجه في فرنسا غضب المزارعين الذين أطلقوا حراكاً لن يتوقف إلا عند حصولهم على إجابات شافية من الحكومة.
وكانت أبرز مظاهر هذا الحراك، الجمعة، «الحصار» الذي فرضه المزارعون على العاصمة باريس من خلال سدّ المنافذ الرئيسية المؤدية إليها باللجوء إلى جراراتهم وآلياتهم الزراعية التي أوقفوها وسط 6 طرقات سريعة تفضي إلى العاصمة. وكانت النتيجة التسبب بازدحامات وصفوف لا تنتهي من السيارات التي تنتظر بصبر أن يفكّ المزارعون الحصار. إلا أن هؤلاء استبقوا الأمر بالتأكيد على أن حراكهم لن يتوقف، بل سيتصاعد إذا ما اعتبروا أن التدابير الجديدة لتحسين أوضاعهم التي كان من المفترض أن يعلنها غبريال أتال عصر الجمعة «غير كافية».
التهديد بحصار باريس
إذا كانت هناك فئة اجتماعية – اقتصادية، تخاف منها الحكومات المتعاقبة، فإنها المزارعون الذين تناقصت أعدادهم بشكل كبير في فرنسا في السنوات الماضية مقابل ارتفاع نقمتهم ومطالبهم. ويأتي حراك المزارعين قبل 6 أشهر من الانتخابات الأوروبية التي تتخوف منها الحكومة، فيما يراهن عليها اليمين المتطرف لتعزيز تقدمه لدى الناخبين، وهو ما تظهره استطلاعات الرأي المتعاقبة. وأحد أسباب تعيين أتال رئيساً للحكومة يكمن في رغبة ماكرون في مجابهة تصاعد شعبية «التجمع الوطني» الذي تتزعمه المرشحة الرئاسية مارين لوبان، من خلال ورقة أتال الشاب الذي يجد في مواجهته جوردان بارديلا، الذي سيقود لائحة الحزب اليميني المتطرف في الانتخابات المقبلة.
ورفعت أهم نقابتين للمزارعين (الفيدرالية الوطنية والمزارعون الشباب)، الخميس، لائحة إلى الحكومة تتضمن 120 طلباً، منها 20 بالغة العجلة. وتدور المطالب حول 3 محاور رئيسية؛ أولها معالجة تراجع عائدات المزارعين رغم ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وثانيها التذمر من وطأة القوانين والنظم المرتبطة بالتغيرات المناخية والحاجة لتسهيلها، وثالثها انعدام الاعتبار للمهنة الأساسية التي لم تعد تحظى، وفق العريضة، بالاهتمام والرعاية التي تستحقها. وجاء في الكتاب المرفوع للحكومة أن المزارعين «يحتاجون لتغيير بنيوي قوي ولتدابير ملموسة طال انتظارها، التي يجب أن تكون مؤشراً قوياً للمزارعين لجهة اهتمام الدولة بهم».
من جانبه، حذّر أرنو روسو، رئيس نقابة «الفيدرالية الوطنية»، من أن المطالب المرفوعة «ليس قاعدة للتفاوض، بل يتعين على الحكومة أن تأخذها جميعها بعين الاعتبار». وإزاء المشهد المتأزم، فقد سارع غبريال أتال إلى جولة واسعة من التشاور بالتعاون مع وزيري الزراعة والبيئة، واعداً بالاستجابة السريعة لمطالبهم.
وتجدر الإشارة إلى أن الحديث عن المزارعين لا يعني الفلاحة والمهن المرتبطة بالأرض فقط، بل يضم أيضاً مربي الأبقار والماشية وغيرها من الحيوانات. ويشكو المزارعون على اختلاف أنواعهم من الأثمان الزهيدة التي يتلقونها لقاء منتجاتهم، فيما الأرباح الرئيسية تعود لـ«الوسطاء»، أي للشركات التي تشتري المنتجات وتبيعها للأسواق، ولكبريات المخازن أيضاً.
وبين الشكاوى الدائمة لفئة المزارعين، القوانين التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، ومنها المساحات المزروعة واللجوء إلى الأدوية الزراعية والمبيدات والتركيز على الإنتاج الخالي منها. ورغم تعاقب العهود والخطط، فإن مطالب المزارعين تبدو دائمة. لكن تتعين الإشارة إلى أن أحوال المزارعين تختلف بين فئة وأخرى، والمساعدات التي تأتي من الاتحاد الأوروبي تذهب بالدرجة الأولى إلى كبار الملاكين والمزارعين، بينما صغارهم لا يحصلون إلا على الفتات.
ويطالب المزارعون بصرف المساعدات الخاصة بـ«السياسة الزراعية المشتركة» الأوروبية فوراً، والمساعدات الحكومية الموعودة التي تعوّضهم الخسائر التي منوا بها بسبب «كوفيد 19»، والفيضانات وأمراض الطيور، خصوصاً تخفيف ضغوط الضرائب التي يعانون منها.
وسارع وزير الاقتصاد برونو لومير، عقب اجتماع في وزارته بالموزعين والفاعلين في قطاع الصناعات الغذائية، إلى تهديدهم بفرض ضريبة بنسبة 2 بالمائة على مبيعاتهم إذا تبين عدم التزامهم بما يسمى قوانين مرتبطة باحترام الأسعار. وندّد لومير بالانتهاكات التي يرتكبها الصناعيون والموزعون في تحديد الأسعار وفي مفاوضاتهم مع المزارعين.
عاصفة قرار المجلس الدستوري
ليس حراك المزارعين وحده الذي استقطب اهتمام الحكومة والسياسيين والإعلام في الساعات الأخيرة. ذلك أن الأنظار كانت مركزة على ما سيصدر من المجلس الدستوري المكلف النظر في مدى التوافق بين القوانين التي تصدر عن السلطة التشريعية والمواد الدستورية بشأن قانون الهجرات الذي أقرّ في البرلمان نهاية الشهر الماضي، وأثار جدلاً واسعاً ومظاهرات متلاحقة رفضاً له.
ولم تنجح الحكومة في الحصول على أكثرية أصوات النواب إلا بعد أن قدمت تنازلات كثيرة لحزب «الجمهوريين» اليميني التقليدي باتجاه التشدد في التعاطي مع الهجرات والمهاجرين، بل إن مارين لوبان اعتبرت أن التصويت على القانون جاء بمثابة «انتصار آيديولوجي» لطروحات حزبها. ومباشرة عقب التصويت على القانون، طلب الرئيس ماكرون من المجلس النظر في القانون الجديد، آملاً منه أن يشذبه وأن يرفض الإضافات التي فرضها اليمين مقابل التصويت لصالح القانون. كذلك قدمت أحزاب طلبات مشابهة.
وجاء قرار المجلس، عصر الخميس، بأن ألغى 32 مادة من أصل 86 مادة يتشكل منها القانون، وهي بالتحديد المواد الإضافية التي أصرّ عليها اليمين. وسارعت أوساط الرئاسة ووزارة الداخلية إلى تأكيد أن الرئيس ماكرون سيعمد سريعاً إلى إصدار القانون المشذب، حيث يدخل حيز التنفيذ. ويعني ذلك أن الحكومة اعتبرت أنها حققت نجاحاً، فيما الغرابة أن الحكومة قبلت تقديم مشروع للتصويت عليه في البرلمان، بينما هي على يقين أنه لن يمر كما هو في المجلس الدستوري.
ومن المواد الأساسية التي اهتمّ بها المجلس، تلك التي تتناول لمّ شمل الأسر وإعادة العمل بجريمة الإقامة غير النظامية على الأراضي الفرنسية وحصول المهاجرين على مساعدات اجتماعية ومساكن، فضلاً عن آلية حصول المولودين في فرنسا بشكل آلي على الجنسية، وفق المبدأ المعمول به منذ عقود. وسارع وزير الداخلية جيرالد درامانان إلى اعتبار أن المجلس أقرّ القانون وفق صيغته الأصلية، أي تلك التي تقدمت بها الحكومة من دون التعديلات الإضافية.
وكان قد نزل عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع، يوم الأحد الماضي، في عشرات المدن الفرنسية كوسيلة ضغط على المجلس الدستوري لمنعه من إقرار القانون، كما نقل إليه. كذلك، أفادت أوساط الإليزيه أن ماكرون طلب من وزير الداخلية القيام بكل ما يلزم ليبدأ العمل بالقانون في أسرع وقت، ما يعني أن الحكومة تريد طي صفحته في أسرع وقت ممكن.
ومثلما كان منتظراً، شنّ اليمين بجناحيه هجمات عنيفة على «حكم القضاة»، وهم غير منتخبين. وطالب رئيس حزب «التجمع الوطني» بإجراء استفتاء حول الهجرات. فيما دعا أريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريين»، إلى «إجراء تعديلات دستورية يكون هدفها الحفاظ على مصير فرنسا». وبالمقابل، فإن أوليفيه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، عبّر عن «ارتياحه» لقرار المجلس الدستوري. إلا أنه ذكر بأن لجوء الحكومة إلى اليمين، وبضغوط من اليمين المتطرف، لتمرير القانون في البرلمان «يعد لطخة لن تزول عن صدر الحكومة».