هزّ الإعلان المفاجئ عن وفاة المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني في أحد السجون الروسية النائية في القطب الشمالي، الأوساط السياسية والإعلامية والمجتمع الروسي. وتوالت ردود الفعل الداخلية والخارجية، وحملت في جزء كبير منها تساؤلات حول ظروف موت نافالني. وسارعت الأوساط الرسمية إلى نفي اتهامات غربية بتغييب الناشط الذي قاد على مدى سنوات جهود كشف الفساد، وتحول إلى أبرز معارض للرئيس فلاديمير بوتين. في المقابل، حملت أوساط المعارضة بقوة على السلطات واتهمتها بتنفيذ «عملية اغتيال» في توقيت لافت، قبل أسابيع من حلول موعد الانتخابات الرئاسية في روسيا.
نوبة مفاجأة
وأعلنت إدارة السجون الروسية في بيان أن نافالني فارق الحياة في السجن إثر نوبة مفاجئة فشل الأطباء في مواجهتها. وأشار البيان إلى أن «السجين اشتكى من عارض مفاجئ فور عودته من فسحة دورية في ساحة السجن، وسرعان ما غاب عن الوعي». وزادت أنه «تم استدعاء فريق الإسعاف، الذي سعى لمدة نصف ساعة لإنقاذه من دون جدوى».
وقال البيان إن الهيئات المختصة فتحت تحقيقاً لتحري أسباب الوفاة. وأعلن الكرملين بعد مرور وقت قصير على انتشار الخبر أن بوتين قد «أبلغ بالنبأ».
وقال الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف: «تم الإبلاغ عن وفاة نافالني، ووفق معلوماتنا لم تتوافر تفاصيل إضافية بعد، والتحقيق مستمر حسب السلطات المختصة».
كان نافالني قد اعتقل في موسكو مطلع عام 2021 فور وصوله من برلين، حيث تلقى العلاج بعد تعرضه لمحاولة تسميم باستخدام غاز الأعصاب «نوفيتشوك» في أغسطس (آب) من العام السابق. وفي فبراير (شباط) 2021، قضت محكمة في موسكو بالسجن لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة بعد إدانته بقضية اختلاس، رأت المعارضة الروسية أنها «مفبركة».
وفي مارس (آذار) من العام التالي، حكمت عليه محكمة في موسكو، بالإضافة إلى القضية السابقة، بالسجن لمدة تسع سنوات في سجن شديد الحراسة بتهمة الاحتيال وازدراء المحكمة وإهانة القاضي. وعادت المحكمة في مايو (أيار) من العام ذاته، لتشديد الحكم ورفض الطعن المقدم. ومثل مجدداً أمام القضاء في أغسطس (آب)، حيث وجدت محكمة مدينة موسكو نافالني مذنباً في قضية جديدة، تتعلق بـ«تأسيس هيكل متطرف يدعو إلى العنف» على خلفية دعوته من سجنه لوقف الحرب الأوكرانية واتهامه بوتين بأنه جر روسيا إلى أزمة كبرى.
وتم الحكم عليه وفقاً للتهم الجديدة بالسجن لمدة 19 عاماً في سجن مشدد. وقبل نحو شهرين تم نقل نافالني سراً إلى سجن يقع في مستعمرة نائية في القطب الشمالي.
وانتقد أنصار نافالني نقله إلى سجن «الذئب القطبي» الواقع في بلدة خارب بمنطقة تبعد حوالي 1900 كيلومتر إلى شمال شرق موسكو، باعتبارها «محاولة أخرى لإجباره على الصمت قبل ثلاثة أشهر تقريباً من موعد الانتخابات الرئاسية».
اتهامات المعارضة
اللافت أن محامي نافالني سرعان ما كتب على وسائل التواصل الاجتماعي بعد انتشار خبر الوفاة أن السجين الأبرز في روسيا «كان في حالة صحية ممتازة قبل يومين، عندما أجرينا معه اتصالاً هاتفياً».
وضجت مواقع التواصل في روسيا باتهامات موجهة ضد السلطات، وقال معارضون إن بوتين «تخلص من أبرز معارض» قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية. ولفتت هذه الاتهامات الأنظار، كون خبر وفاة المعارض البارز قد يثير زوبعة ضد الكرملين، على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهو ما دفع معارضين إلى الإشارة بأن «السلطات لا تبدو قلقة على الوضع الداخلي، ما يفسر تنفيذ عملية اغتيال في هذا التوقيت».
لكن هذه الاتهامات قوبلت باستنكار أوساط سياسية وبرلمانية، ورأى السياسي البارز سيرغي ميرونوف، رئيس حزب «روسيا العادلة»، أن «وفاة نافالني مفيدة لأعداء روسيا»، وأكد على قناعة بأن التحقيقات سوف تكشف ملابسات الحادث.
«تسرّع» الغرب
خارجياً، توالت ردود الفعل الغربية التي حملت اتهامات مباشرة أو غير مباشرة للكرملين. وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في مؤتمر صحافي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتس في برلين: «من الواضح أن بوتين قتل نافالني. يجب أن يخسر بوتين، يجب أن يفقد كل شيء، يجب أن يتحمل المسؤولية عن كل شيء».
أما شولتس، فقد أشاد بنافالني وقال إنه «دفع ثمن شجاعته». وقبل أن يستدرك: «لم يتم تأكيد ذلك بشكل نهائي بعد، لكن يمكننا أن نفترض بدرجة عالية من الاحتمالية أن نافالني توفي في سجن روسي. هذا أمر محبط للغاية. التقيت نافالني عندما عولج من التسمم في ألمانيا. تحدثنا معه عن الشجاعة الكبيرة التي يحتاج إليها للعودة إلى روسيا، ودفع حياته ثمناً لهذه الشجاعة. لكننا نعرف بدقة ما هو هذا النظام. ويجب على كل من يدافع عن الديمقراطية أن يكون حذراً. أنا مع عائلتي وزوجتي وأولادي وكل أقاربنا وأصدقائنا محبطون. هذا أمر فظيع، ودليل على كيفية تبدل روسيا. هذه ليست ديمقراطية».
بدوره، قال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إن أليكسي نافالني «أظهر شجاعة لا تصدق طوال حياته». بينما قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، إن «على روسيا تقديم أجوبة على الأسئلة الجادة فيما يتعلق بوفاة نافالني». وزاد المسؤول الغربي: «أشعر بحزن عميق وقلق إزاء هذه التقارير من روسيا عن وفاة أليكسي نافالني». وشدّد على أنه «يجب تحديد كل الملابسات. نافالني كان مدافعاً قوياً عن الديمقراطية خلال سنوات طويلة، وكانت دول (الناتو) تطالب على الدوام بإطلاق سراحه. لا توجد لدينا أي معلومات حول وفاته في الوقت الراهن، فيما تطرح أسئلة جدية يجب أن تجيب عنها روسيا. نافالني كان في السجن… كان سجيناً، وعلى روسيا أن تحقق في وفاته».
وسارعت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إلى التنديد بـ«تسرع الغرب»، وقالت إن «الاستنتاجات الفورية التي خرج بها زعماء دول (الناتو) حول وفاة المعارض الروسي أليكسي نافالني في السجن، تكشفهم». وزادت: «لم تصدر بعد أي نتائج عن فحص الطب الشرعي. استنتاجات الغرب كانت جاهزة مسبقاً».
دعوة للتظاهر
اللافت أن الكلمات الأخيرة التي كان وجهها نافالني لمؤيديه عبر محاميه، مطلع الشهر الحالي، تضمّنت الدعوة لتظاهرات في كل أنحاء روسيا خلال الانتخابات الرئاسية التي ستجري من 15 حتى 17 مارس (آذار)، والتي يُتوقّع أن تسمح للرئيس الحالي فلاديمير بوتين بالبقاء في السلطة حتى 2030 على الأقل. في حينها، قال نافالني على شبكات التواصل الاجتماعي: «تعجبني فكرة أن يذهب كل الذين سيصوتون ضد بوتين إلى صناديق الاقتراع في توقيت موحد، الساعة 12 ظهراً». وأضاف من سجنه: «قد يكون ذلك دليلاً قوياً على ذهنية البلاد»، معتبراً أن السلطات لن تستطيع منع هذه التظاهرة «القانونية والآمنة تماماً». ودعا نافالني كل المعارضين لسياسة الكرملين وللحرب في أوكرانيا إلى التحرك، «ليس فقط في كل مدينة، بل أيضاً في كلّ حي». وتابع: «يمكن لملايين الأشخاص أن يشاركوا، وعشرات الملايين أن يحضروا».
«مكافحة الفساد»
كان نافالني لفت الأنظار منذ عام 2007، حين بدأ بتنظيم تحقيقات استقصائية موسعة بعد تمكنه من الاطلاع على تقارير شركات كبرى، والغوص فيها بحثاً عن أدلة على فساد، وهو ما وثقه في مدونته التي كان يتابعها عشرات الملايين. وبعدها، أنشأ في عام 2011 «صندوق مكافحة الفساد» الذي استقطب أعداداً كبيرة من المناصرين مع كشفه عن الثروات الكبرى للنخب الموالية للكرملين.
وفي شتاء 2011-2012، قاد نافالني تحركات احتجاجية كبرى إثر انتخابات برلمانية فاز فيها حزب «روسيا الموحدة» بزعامة بوتين، في استحقاق شابته اتهامات بالتزوير. واستمرّت بعدها محاولات نافالني لكشف عمليات فساد. ونشر في مارس (آذار) 2017 شريط فيديو تناول فيه الحياة المترفة التي يعيشها رئيس الوزراء حينها ديمتري ميدفيديف، وثروته العقارية، متطرقاً إلى منزل فخم يملكه وفيه مزرعة للبط وسط بحيرة، ما أدى إلى تظاهرات منددة.
وفي وقت لاحق، أصدر فيديو مماثلاً تناول فيه «ثروة خرافية» قال إن بوتين يسيطر عليها. كما تناولت تحقيقاته غالبية الشخصيات السياسية والاقتصادية المقربة من بوتين. على أثر ذلك، منع من خوض الانتخابات الرئاسية في مواجهة بوتين في ديسمبر (كانون الأول) 2018 بسبب إدانته بتهمة اختلاس. وحض نافالني في وقتها الروس على مقاطعة الانتخابات التي أفضت، على الرغم من جهود المعارض، إلى فوز بوتين بولاية رابعة.