وسط مخاوف من وقوع أعمال إرهابية تستهدف فرنسا بمناسبة الأعياد الدينية الأخيرة، وبعد الهجوم الإرهابي الدامي الذي استهدف قاعة الحفلات «كروكوس سيتي هول» في موسكو مساء 23 مارس (آذار) والذي أوقع 137 ضحية وعشرات الجرحى، عمدت السلطات الفرنسية إلى اتخاذ إجراءات أمنية استثنائية، أهمها رفع مستوى التأهب الأمني إلى الدرجة العليا ونشر الآلاف من رجال الأمن والجيش والمخابرات في الأماكن الحساسة وتعزيز الحراسة على المواقع الدينية والمدارس وتسيير الدوريات ومتابعة متشددة لمواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً فرض مراقبة دائمة على الأشخاص المسجلين على لوائح تهديد امن الدولة.
ورغم أن الأعياد المشار إليها مرت بسلام، فإن المخاوف ما زالت على حالها، لا، بل إنها تتفاقم يوماً بعد يوم ذلك أن الأنظار شاخصة لمواعيد الألعاب الأولمبية التي تستضيفها باريس ومجموعة من المدن الفرنسية الكبرى الصيف المقبل. وثمة إجماع داخلي مؤداه أن التحدي الأكبر الذي يواجهه منظمو الألعاب أمني الطابع بالنظر للحشود الرسمية والشعبية الكبيرة التي ستتدفق على باريس بهذه المناسبة، خصوصاً في الحفل الافتتاحي الذي سيجري في نهر السين وعلى جوانبه مساء 26 يوليو (تموز).
ولا يأتي القلق الفرنسي من العدم. فالمؤشرات المتوافرة لدى الأجهزة الأمنية، وفق ما أكده المسؤولون عنها، لا تطمئن وكان أحدثها إلقاء القبض على مواطن مصري الجنسية، في الخامس من الشهر الماضي، تؤكد المصادر الأمنية أنه كان على صلة بتنظيم «داعش» للاشتباه بأنه كان يحضّر لاعتداء يستهدف كاتدرائية نوتردام الواقعة في قلب باريس والتي لم ينته العمل من ترميمها بعد الحريق الكبير الذي أصابها في عام 2019.
ويترقب الفرنسيون لافتتاحها مجدداً في شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل وسط حضور رسمي وفرنسي وعالمي، فضلاً عن الحضور الشعبي بحيث ستشكل إعادة افتتاحها استحقاقاً رئيسياً بالغ الأهمية بالنسبة لفرنسا.
حتى اليوم، لم يكشف النقاب عن اسم هذا الشخص ولا عن هويته ووضعه القانوني في فرنسا كزمن وصوله وسكنه وعمله واستقراره أو وجود أشخاص آخرين على صلة بهذا المخطط الإرهابي. ولم توفر المصادر الأمنية أو القضائية أي معلومات عن الجهات الداعشية التي كان على تواصل معها أكانت في المنطقة السورية – العراقية أو «داعش ــ ولاية خراسان» والفترة الزمنية التي كان التواصل خلالها قائماً. والمعروف أن «داعش – ولاية خراسان» هو المسؤول عن عملية موسكو، ويبدو الأكثر نشاطاً في الوقت الحالي في أوروبا بما في ذلك فرنسا، وفق تأكيدات المصادر الأمنية في باريس. وجُل ما عرف عن المواطن المصري أنه يبلغ الثانية والستين من العمر وأنه يعتنق «آيديولوجية جهادية متطرفة»، وأن عناصر من المديرية العامة للأمن الداخلي، بطلب من النيابة العامة المتخصصة بشؤون الإرهاب، ألقت القبض عليه وهو حالياً قيد الاحتجاز بانتظار استكمال التحقيق بشأنه قبل محاكمته.
ومن المعلومات التي توافرت، أنه «قام بعمليات استكشاف عدة» للمكان المستهدف إرهابياً، أي كاتدرائية نوتردام في باريس. وفي الثامن من الشهر الماضي، فُتح تحقيق قضائي بشأنه مثُل بعدها المشتبه به أمام قاضي التحقيق الذي وجّه إليه تهمتي «التحضير لعمل إرهابي» و«الانتماء إلى جمعية من الأشرار الإرهابية والمجرمة». وجاءت عملية القبض عليه عقب عملية مشابهة أحبطتها مديرية الأمن الداخلي وكانت تستهدف بدورها موقعاً دينياً للمسيحيين الكاثوليكيين لم يكشف، حتى اليوم، عن موقعه.
طيلة 15 يوماً، بقيت هذه الحادثة قيد الكتمان وكانت صحيفة «لو فيغارو» أول من أماط اللثام عنها جزئياً وتبعتها الصحيفة الأسبوعية «جورنال دو ديمانش» التي أكملت الرواية نقلاً عن مصادر قضائية وأمنية. بيد أن هناك ما يثير علامات استفهام بالنسبة لهذا الرجل وأولها سنه. فحتى اليوم، نادرة إن تكن غائبة تماماً الأعمال الإرهابية التي ارتكبها مسنون. وثانيها كونه مصرياً؛ إذ إن المعروف أن المصريين لم يكونوا ضالعين سوى مرة واحدة في محاولة إرهابية على التراب الفرنسي قبل عقد من الزمن. وثالثها أن المخاوف الفرنسية والأوروبية في الوقت الحاضر مصدرها المواطنون من منطقة آسيا الوسطى (تركمانستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، كازخستان) والتي تضاف إليها أفغانستان. وبحسب مصادر في المديرية العامة للأمن الداخلي، فإن «حركة ما» مشبوهة تجري في هذه الأوساط علما أن مواطنين من طاجيكستان هما من ارتكب المجزرة التي حصلت في صالة الحفلات في ضاحية موسكو.
لكن المخاوف الفرنسية ليس مصدرها فقط قدوم مجموعة إرهابية من الخارج لارتكاب عمل إرهابي واسع كما حصل في الماضي، بل «تشغيل» أفراد متواجدين على الأراضي الفرنسية ويمكن تحريكهم من الخارج. ولذا؛ فإن القرارات التي اتخذها مجلس الدفاع والأمن الأخير الذي انعقد برئاسة إيمانويل ماكرون دعا إلى التركيز المخابراتي على المتشددين والراديكاليين من هذه المجموعات المسؤولة على الأقل عن عمليتين إرهابيتين في فرنسا، إحداها قتل المدرس صامويل باتي وقطع رأسه على يد شاب أفغاني الأصل يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2020. كذلك، فإن الأجهزة الأمنية تتخوف من أعمال يقوم بها من يسمون «الذئاب المنفردة» التي تتحرك وفق آيديولوجيات أصولية راديكالية ومن غير أن تكون على صلة مع الخارج.
أما مصدر التهديد الأخير فعنوانه السجناء من الراديكاليين والمتشددين الذين يخرجون من السجن بعد قضاء أحكامهم. وفي الأيام الأخيرة، كشف مسؤولون فرنسيون منهم رئيس الحكومة غبريال أتال ووزير الداخلية جيرالد دارمانان عن تعطيل مخططين إرهابيين كانا يستهدفان فرنسا في هذا العام و47 محاولة إرهابية منذ عام 2017. ونسبت مصادر أمنية الكثير من المحاولات الإرهابية التي تم إبطالها في الأشهر الأخيرة إلى هذه المجموعات بحيث تحول تنظيم «داعش – ولاية خراسان»، بحسب القراءة الفرنسية، إلى مصدر التهديد الأول للألعاب الأولمبية المرتقبة. وأفادت هذه المصادر بأنه خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من مارس، تم إلقاء القبض على خمسة أشخاص جميعهم على ارتباط بتنظيم «داعش ــ ولاية خراسان» كانوا يخططون لثلاثة أعمال إرهابية مختلفة؛ الأمر الذي يفسر قلق السلطات التي لا تريد أن تعيش فرنسا الخوف الذي عرفته خلال عامي 2015 و2016. كذلك حصلت عمليات توقيف في ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا لأفراد من آسيا الوسطى على علاقة بـ«داعش – ولاية خراسان».
وخلال الأعوام الماضية وبدءاً من عام 2015، ضاعفت السلطات عدد الأفراد العاملين لمصلحة المديرية العامة للأمن الداخلي بحيث تجاوز عددهم الـ5000 شخص، كما ضاعفت الميزانية المخصصة لهذا الجهاز الذي تقوم مهمته على اختراق الأوساط الجهادية وتعطيل العمليات الإرهابية قبل حصولها. ولا شك أن الحاجة إليه ستتضاعف خلال الأشهر الخمسة المقبلة.
وأكثر من مرة، قال رئيس الحكومة إن «التهديد الإرهابي الإسلاموي حقيقي وقوي»، وإنه «لم يضعف أبداً»، مضيفاً أن «التعبئة الأمنية كاملة» وأن القوى الأمنية تعمل على «خنقه في المهد»، وذلك عن طريق نشر وتوفير وسائل استثنائية على كامل الأراضي» الفرنسية. وفي هذا السياق، فإن «دور المديرية المشار إليها سيكون بلا شك رئيسياً».