في الوقت الذي تصارع فيه أوكرانيا ميدانياً للتغلب على تميز روسيا في القوة العسكرية والمواد، ربما تتاح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فرصة إنهاء حرب دمرت الجمهورية السوفياتية السابقة، وجلبها إلى مائدة الاتحاد الأوروبي، وأيضاً المساهمة في تحويل القارة إلى «أوروبا القوية» التي يتصورها. ويروج كثير من قادة أوروبا، مثل الرئيس الفرنسي، لفكرة تحقيق استقلالية استراتيجية تمكن الاتحاد الأوروبي من تأمين مصالحه وأمنه بشكل أكثر فاعلية.
وفي ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، والنزاعات المسلحة المستمرة، صارت قضية الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية مسألة ملحة، في ضوء الحرب الأوكرانية الدائرة التي أثبتت ضرورة تعزيز القدرات الدفاعية لأوروبا بشكل مستقل عن الحلفاء التقليديين.
ويقول الباحث أندرو داي في تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنترست» إن الرئيس الفرنسي يقدم رؤيته لـ«أوروبا تستحق الاحترام وتضمن أمنها الخاص»، ويؤكد أن أوكرانيا جزء من هذه «العائلة الأوروبية»، و«ستنضم حتماً إلى الاتحاد عندما يحين الوقت لذلك»، وهذه الأهداف – «الاستقلال الاستراتيجي» الأوروبي وأوكرانيا الأوروبية، قد تكون متصلة أكثر مما يدرك ماكرون حتى الآن.
ويؤكد مقال نشرته مؤخراً مجلة «فورين أفيرز» أن المفاوضين الروس اتفقوا خلال المفاوضات الفاشلة في وقت مبكر من الحرب، على أنه يمكن لأوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بوصفها جزءاً من اتفاق سلام.
ويرى الباحث داي أن نيل عضوية الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يحقق هدف أوكرانيا القديم المتمثل في التحول إلى أوروبا الحرة والمزدهرة. كما يمكن أن يمنح كييف الضمانات الأمنية التي تريدها بشكل مفهوم حال هجوم موسكو عليها مرة أخرى في المستقبل.
إن سياسة الأمن المشترك التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي، وهي أقل شهرة من سياسة الدفاع الذاتي الجماعي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، تُلزم الدول الأعضاء بمساعدة أي دولة عضو في مواجهة أي «عدوان مسلح على أراضيها».
ولقد سمح الاتحاد الأوروبي تاريخياً للأعضاء المحايدين وغير المنحازين بالانسحاب من الأمن المشترك. وفي حين تفضل موسكو أن تصبح أوكرانيا دولة عازلة محايدة، فإن تسوية ما بعد الحرب ستكون أكثر استقراراً إذا قللت أوروبا من شعور كييف بالضعف. وإضافة إلى ذلك، سيستفيد الاتحاد الأوروبي من الجيش الأوكراني ذي الخبرة القتالية. وبطبيعة الحال، تفضل كييف الحصول على ضمانات أمنية من أميركا، القوة العسكرية العظمى. ومع ذلك، وفقاً لمقال «فورين أفيرز»، فإن هذا «غير مقبول بالنسبة لواشنطن».
ولحسن حظ أوكرانيا، تتطلع أوروبا إلى تعزيز قدراتها العسكرية في عصر يتسم بتعدد الأقطاب والغموض.
ويقول داي كما جاء في تقرير «الوكالة الألمانية» من واشنطن، إنه في الوقت الذي تستعد فيه أوروبا لعودة ترمب للبيت الأبيض، وشعار «أميركا أولاً»، وتترنح من الحرب الروسية الأوكرانية في عامها الثالث، فإن ماكرون ليس زعيم الاتحاد الأوروبي الوحيد الذي يروج للاكتفاء الذاتي العسكري.
انتقد الرئيس السابق لحكومة ولاية شمال الراين – ويستفاليا الألمانية، أرمين لاشيت، علاقة المستشار أولاف شولتس بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووصفها بأنها باردة للغاية.
وقال مرشح التحالف المسيحي لمنصب المستشار في الانتخابات العامة عام 2021، الثلاثاء، في تصريحات لمحطة «دبليو دي آر 5» الألمانية: «يشعر الجميع بأن هذه ليست الصداقة العميقة والحماس اللذين تحتاجهما بالفعل هذه العلاقة». وقال لاشيت: «أريد أن أقول ذلك بحذر: نحن بحاجة إلى مزيد من الإدراك والحماس من المستشار في هذه العلاقات».
وذكر لاشيت أنه لم يكن من الجيد أيضاً أن يسافر شولتس وماكرون بشكل فردي لمقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو قبل بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، وقال: «كل منهما أجرى محادثات فردية، وهذا لا يعزز التماسك الأوروبي».
وقال منسق السياسة الخارجية والأمنية المشتركة في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في مارس (آذار) الماضي: «لقد جلبت الحرب العدوانية الروسية إحساساً كبيراً بضرورة تعزيز قدراتنا الدفاعية الصناعية». وقبل شهر، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أوروبا إلى «تحمُّل مسؤولية أمنها»، مشيرة إلى أنه «ليست لدينا سيطرة على الانتخابات أو القرارات في أجزاء أخرى من العالم».
وجاء في تقرير لصحيفة «بوليتيكو» أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي يتصارعان، في الوقت الذي يصبح فيه الأخير أكثر حزماً في مجال الدفاع. ويدعو البعض إلى تعيين أول مفوض دفاع – ضمن المفوضية الأوروبية الجديدة عقب انتخابات البرلمان الأوروبي الشهر المقبل – من أجل تمويل صناعة الأسلحة الأوروبية بشكل كافٍ.
ويتساءل داي: «هل يكون التزام الاتحاد الأوروبي بالدفاع عن أوكرانيا ذا مصداقية؟»، ويجيب: «نعم»، على نحو كبير، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير للرئيس الفرنسي، الذي أثار في مناسبات عدة إمكانية إرسال قوات غربية لأوكرانيا، وهو اقتراح وجده قادة المعارضة صادقاً على نحو مؤلم، ويبدو أن موسكو تأخذه على محمل الجد. وأشار ماكرون مؤخراً إلى أن باريس يمكن أن «تضفي الطابع الأوروبي» على ترسانتها النووية؛ ما يجعل أوروبا كلها تحت مظلة فرنسا النووية. وبهذه الخطوات، يحاول قصر الإليزيه إحداث «غموض استراتيجي»، بحيث يعتقد بوتين أن الغرب قد يتدخل حال صعد عدوانه على أوكرانيا.
ونظراً لموقف روسيا التفاوضي المواتي بشكل متنامٍ، ربما تكون موسكو أقل استعداداً مما كانت عليه قبل عامين لإعطاء الضوء الأخضر لأوكرانيا كي تنضم للاتحاد الأوروبي. ولكي تصبح مشاركة أوكرانيا في الإطار الأمني المشترك للاتحاد الأوروبي أكثر قبولاً لبوتين، على ماكرون حشد القادة الأوروبيين للتعهد بأنهم، في المقابل، سيمنعون انضمام أوكرانيا إلى حلف
شمال الأطلسي، وهو أمر بدأت واشنطن الدفع باتجاه تحقيقه خلال قمة بوخارست في عام 2008، رغم المعارضة الروسية الصاخبة.
وبالإضافة إلى ذلك، يجب على الرئيسين الفرنسي والأوكراني التعهد بأن الدول الأوروبية فقط، وليس الولايات المتحدة، ستتعاون عسكرياً مع أوكرانيا بعد الحرب. وكانت جهود أميركا أن تصبح أوكرانيا جزءاً من «الناتو» – سواء بشكل فعلي أو قانوني – جعلت غزو بوتين للبلاد أكثر احتمالاً على نحو واضح. والآن، ولحل النزاع، يجب التراجع عن ذلك الخطأ الاستراتيجي المصيري.
ويرى داي أن الالتزام بالدفاع عن أوكرانيا دون دعم أميركي سيدفع دول الاتحاد الأوروبي إلى مواصلة تحمل عبء الدفاع بشكل أكبر، واستمرار تعزيز التعاون العسكري، كما سيمكِّن الولايات المتحدة من تخفيف بعض التزاماتها الدفاعية وهي تحوِّل تركيزها إلى الصين. وبما أن أوكرانيا تمثل مصلحة أمنية هامشية لأميركا، فإنه يجب على واشنطن أن توضح بشكل قاطع أنها لن تنجر إلى حرب مع موسكو إذا تعرضت دول «الناتو» الأوروبية، لهجوم من روسيا حال أقدمت على الدفاع عن أوكرانيا مستقبلاً، رداً على ذلك. يجب على العواصم الأوروبية أن توضح لموسكو وواشنطن وكييف أن التزامات «الناتو الأميركية» لن تشمل مثل هذا السيناريو.
وبطبيعة الحال، لن ترحب الولايات المتحدة بسهولة بأن تتولى الدول الأوروبية التابعة لها السيطرة على أزمة أوكرانيا، لكن كسر التبعية سيكون بالضبط الهدف الأساسي لماكرون. وإذا اتفقت أوروبا وأوكرانيا وروسيا على إنهاء القتال واتباع التسوية المؤقتة الموصوفة أعلاه، فمن شأن ذلك أن يضع واشنطن تحت ضغوط هائلة للتنحي جانباً، وإعطاء فرصة للسلام.
وستنتهي الحرب الوحشية المدمرة أخيراً، وستكون أوروبا ذات السيادة التي يحلم بها ماكرون أقرب إلى الواقع بخطوات قليلة.