بدأت تتضح ملامح المشهد السياسي في فرنسا، بعد أقل من أسبوع على قرار الرئيس إيمانويل ماكرون حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية ستحصل يومي 30 يونيو (حزيران) و7 يوليو (تموز). ولم تُعطِ الأحزاب سوى 3 أسابيع، وهي الفترة الأقصر في تاريخ الجمهورية الخامسة من أجل نسج التحالفات وتحضير برنامجها الانتخابي وتعيين مرشحيها، فضلاً عن الإجراءات اللوجيستية. ويتعيّن على كل حزب أو تحالف أن يقدم لائحة مرشحيه بحلول مساء السبت، علماً بأن هناك 577 دائرة انتخابية، ويتعين بالتالي إيجاد الشخصيات المناسبة، خصوصاً تلك القادرة على الفوز في دوائرها.
وتبدو الصورة اليوم كالتالي: هناك جبهتان سياسيتان؛ الأولى يمثلها اليسار بتشكيلاته الأربعة (الاشتراكيون والشيوعيون والخضر وحزب فرنسا الأبية) التي نجحت، بعد مخاض كاد يطيح بآمالهم، في تشكيل «الجبهة الشعبية الجديدة» مع برنامج محدد يرضي كل مكوناتها وينحي المسائل الخلافية جانباً أو يغلفها بكلام عام. وكاد الحديث عن هوية المرشح لتسلم رئاسة الحكومة، في حال فوز الجبهة بالأكثرية، يشكل عقبة صعبة التخطي بعد أن طرح اسم جان لوك ميلونشون، زعيم «فرنسا الأبية» (أي اليسار المتشدد) لهذا المنصب. وشخصية ميلونشون، المرشح الرئاسي السابق، لا تحظى بإجماع الأطراف الأربعة وكانت خلال الأشهر السبعة الماضية محط هجمات اليمين والاشتراكيين والخضر بسبب مواقف حزبه الداعمة للفلسطينيين ولتنديده بالمجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة. وللخروج من المأزق، اتّفق أركان الجبهة على أن رئاسة الحكومة ستعود للحزب الذي سيحصل على أكبر عدد من النواب في البرلمان المقبل.
هيمنة اليمين المتطرف
حدّدت الجبهة الجديدة هدفاً رئيسياً لمعركتها الانتخابية، عنوانه قطع طريق وصول اليمين المتطرف (التجمع الوطني) إلى السلطة. وأرادت الجبهة أن تكون بالغة الوضوح منذ البداية بتأكيدها أنه في حال التنافس بين مرشح للجبهة الوطنية وآخر لتجمع اليمين والوسط في الجولة الانتخابية الثانية (الحاسمة)، فإنها تدعو محازبيها، بلا تردد أو غموض، إلى التصويت لخصم اليمين المتطرف مهما كانت الظروف.
ويبين آخر استطلاع للرأي نشرته الخميس، صحيفة «لا تريبيون» الاقتصادية، أن تجمع اليسار يمكن أن يحصد 28 في المائة من الأصوات مقابل 31 في المائة للتجمع الوطني، بينما تحصل الأحزاب الدائرة في فلك الرئيس ماكرون على 18 في المائة من الأصوات. أما اليمين التقليدي (حزب الجمهوريون)، فقد هبطت أسهمه إلى 6.5 في المائة. وتدل النتائج على أن «التجمع الوطني» بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا سيحتل المرتبة الأولى بحصوله على عدد من 220 إلى 270 مقعداً، بينما الأكثرية المطلقة هي 289 نائباً. ويحل تحالف اليسار في المرتبة الثانية (150 إلى 190 مقعداً) بينما التحالف الداعم لماكرون سيحصل على عدد من 90 إلى 130 مقعداً، بحيث لا يبقى للحزب اليميني التقليدي (الجمهوريون) سوى من 30 إلى 40 نائباً.
وإذا كان الرئيس الفرنسي يريد، كما شرح ذلك مراراً منذ الأحد الماضي، «توضيح» المشهد السياسي وتموضع أحزابه، فإن أمنيته قد تحققت، بحيث بدا، من خلال الانتخابات الأوروبية والانتخابات المقبلة، أن اليمين المتطرف سيفرض، في جميع الأحوال والسيناريوهات، ظله على فرنسا. فالمغامرة السياسية الكبرى التي ارتكبها ماكرون بحل البرلمان، ستفضي إلى أنه سيقدم مفاتيح السلطة لهذا اليمين على طبق من فضة.
ذلك أن «التجمع الوطني» نجح في شق صفوف اليمين التقليدي عندما التحق به رئيس حزب «الجمهوريون» أريك سيوتي. ورد الأخير على اتهامات «الخيانة» التي أطلقها بوجهه أصدقاؤه السابقون بالقول إنه «يستجيب لمزاج أعضاء الحزب» الذين يريدون قيام تحالف اليمين بجناحيه التقليدي والمتطرف.
ويرى المحللون السياسيون في فرنسا أن اقتراب «التجمع الوطني» من عتبة السلطة سيشد إليه كثيراً من الطامحين من جهة، ومن جهة أخرى النواب السابقين الذين يتخوفون من عجزهم عن الفوز من غير دعم اليمين المتطرف. وإذا تواصلت الأمور على هذا المنوال، فإن مصير حزب «الجمهوريون» على المحك.
صحيح أن ماكرون نجح، خلال سنوات حكمه السبع، في أن يجتذب إليه كثيراً من شخصيات اليمين البارزة مثل وزيري الاقتصاد والداخلية برونو لومير وجيرالد دارمانان ورئيس حكومته الأولى أدورا فيليب وكثيرين غيرهم. ورهانه الرئيسي، كما فصله في مؤتمره الصحافي ظهر الأربعاء، أن يجتذب إلى حزبه الخاص (التجدد) المتحالف مع «الحركة الديمقراطية» (وسط)، وحزب «هورايزون» (يمين الوسط)، الاشتراكيين الديمقراطيين واليمين المعتدل، من أجل إنشاء تحالف مُوسّع يكون الوحيد القادر على إدارة شؤون البلاد، وإنقاذها من أقصى اليمين وتحالف اليسار الذي يُسمّيه عمداً «أقصى اليسار» أو «اليسار الميلونوشوني» المتهم بالتواطؤ مع روسيا وبالرغبة في الانسحاب من الحلف الأطلسي، فضلاً عن معاداة السامية.
وبكلام آخر، أراد ماكرون أن يدفع لبروز كتلة وسطية واسعة فشل في إنشائها في العامين الأخيرين، حيث لم يكن يتمتع بالأكثرية في مجلس النواب. وبقيت دعواته لاجتذاب عدد من نواب اليمين لبلوغ الأكثرية المطلوبة دون نتيجة. ولا أحد يرى كيف أنه خلال 17 يوماً سينجح في إنجاز ما فشل في الحصول عليه خلال عامين، خصوصاً أنه اليوم «الطرف الأضعف» في المشهد السياسي.
الضبابية المستحكمة وانعدام اليقين
رغم ما سبق، يبدو من الصعب اليوم استشراف ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات بدقة بسبب القانون الانتخابي القائم على الدائرة الصغرى. ففرنسا ستشهد 577 معركة انتخابية تتحكم بها متغيرات يصعب التكهن بدقة بتأثيرها على أداء الناخبين، ومنها، على سبيل المثال، نسبة المشاركة في الاقتراع ومدى شعبية المرشح في دائرته، بغض النظر عن لونه السياسي ومع من سينسج تفاهمات محلية، ولأي جهة سيدفع محازبيه وناخبيه إلى الاقتراع في حال عدم تأهله للجولة الثانية.
وجاء تأكيد فرنسوا – كزافيه بيلامي، الرئيس المشارك في إدارة حزب «الجمهوريون» ورئيس لائحته في الانتخابات الأوروبية، أنه في حالة التنافس بالجولة الثانية بين مرشح يميني متطرف ويساري من «الجبهة الشعبية الجديدة»، فإنه «لن يتردد في الاقتراع لصالح الأول»، الأمر الذي أثار حالة من البلبلة. أما رئيس مجلس الشيوخ، جيرار لارشيه، المنتمي إلى الحزب نفسه، فدعا لعدم التصويت لأي من المرشحين والاكتفاء إما بورقة بيضاء أو بالامتناع عن التصويت.
وإذا كان السؤال وجد رداً عليه من تحالف اليسار، فإنه لا الجبهة الوسطية التي يريدها ماكرون «القوة الثالثة»، ولا التجمع الوطني أجابا عن هذا السؤال الذي سيكون مركزياً يوم 7 يوليو، موعد الجولة الحاسمة. وينُصّ القانون الانتخابي الفرنسي على أن المرشح الحاصل على 12.5 في المائة من أصوات المسجلين على اللوائح الانتخابية يحق له البقاء في المنافسة.
ثمّة لغز تطرحه هذه الانتخابات، حيث لا يبدو أن أي كتلة من الكتل الثلاث المتنافسة قد تحصل على الأكثرية اللازمة، ما سيدخل فرنسا في حالة من الإرباك ستنعكس حكماً على الاقتصاد والاستقرار الداخلي، وعلى موقعها ودورها على الساحتين الأوروبية والدولية. وحسابياً، يستحيل تصور أن اليمين المتطرف واليسار المتطرف سوف يتفقان على الوصول إلى الأكثرية في البرلمان. كذلك، فإن التحاق نواب اليمين بنواب الكتلة الوسطية الماكرونية لن يكون كافياً، وفق توقعات استطلاعات الرأي، لتوفير الأكثرية.
وفي حال قيام حكومة من غير أكثرية، فإن سقوطها في اختبار الثقة سيدفعها إلى الاستقالة، ما سيقود البلاد إلى أزمة سياسية ودستورية، إذ لا يجوز لرئيس الجمهورية، بحسب الدستور، أن يدعو لانتخابات جديدة قبل مرور عام كامل على الانتخابات الأخيرة. وقبل حلول موعد الانتخابات، أكد ماكرون أنه لن يستقيل مهما تكن النتائج. لذا، يتوقع المراقبون أن تكون فرنسا مقبلة على فترة من انعدام التوازن، إلا إذا شهدت الأيام الفاصلة عن موعد الانتخابات، تحولات تكذب توقعات المتشائمين.