تتابع دول كثيرة عن كثب تطورات الانتخابات التشريعية الفرنسية، التي حقق حزب «التجمع الوطني» (اليمين المتطرف) فوزاً تاريخياً في دورتها الأولى الأحد، وقد تحمل إليه جولة الإعادة، يوم الأحد المقبل، السلطة على طبق من فضة.
ويكمن التخوف الأوروبي والغربي بشكل خاص من التحولات التي قد تطرأ على سياسة فرنسا الخارجية إزاء الحرب في أوكرانيا، وإزاء دورها داخل الاتحاد الأوروبي، وعلاقاتها الدولية أكانت مع الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، أو في الشرق الأوسط وأفريقيا، فضلا عن الدور الذي تلعبه تقليدياً في المنظمات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي.
قلق ألماني وترحيب روسي مقنع
لم ينتظر المستشار الألماني أولاف شولتس نتائج الجولة الانتخابية الأولى للتعبير عن قلقه مما تشهده جارته الغربية. وليس في ذلك ما يثير الدهشة بالنظر إلى العلاقة الخاصة التي تربط البلدين. فمنذ عقود، كانت باريس وبرلين دوماً بمثابة القاطرة التي تدفع المشروع الأوروبي إلى الأمام. وكما مُني حزب الرئيس إيمانويل ماكرون بإخفاق شديد في الانتخابات الأوروبية لصالح اليمين المتطرف، كذلك كان حال شولتس مع حزب «البديل». وتجدر الإشارة إلى أن حزبه «الاشتراكي الديمقراطي» حصل تقريباً على النسبة نفسها التي حصل عليها حزب ماكرون «تجدد»، والحزبان المتحالفان معه «الحركة الديمقراطية» و«هورايزون». وما يحصل من هذا الجانب من الحدود، يمكن أن تكون له انعكاساته من الجانب المقابل.
كان شولتس أول من سارع يوم 23 يونيو (حزيران) إلى التعبير عن قلقه من التطورات السياسية في فرنسا. ففي حديث للإذاعة الألمانية العامة قال: «أريد أن أقول بصراحة إنني قلق بشأن الانتخابات في فرنسا»، مضيفاً: «دعوني أقولها بهذه الطريقة: آمل أن تنجح أحزاب غير حزب مارين لوبان في الانتخابات، لكن هذا أمر يقرره الشعب الفرنسي». وطمأن شولتس الرئيس الفرنسي، إذ أكد أنه الشخص المحوري في التعاون الثنائي والأوروبي، وأنه سيواصل لقاء ماكرون داخل الهيئات التي يشارك فيها بصفته مستشاراً، رغم ما سيأتي من تغيير.
وبعد صدور نتائج الجولة الأولى، قرعت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك التي تنتمي إلى حزب «الخضر» ناقوس الخطر، إذ عدّت أن «الجميع سيتأثرون إذا حقق حزب ينظر إلى أوروبا بوصفها المشكلة وليس الحل تقدماً بفارق كبير» من الأصوات. وهذه حال نتائج الجولة الأولى، ويتوقع أن يستمر التجمع الوطني من الاستفادة من ديناميته الانتخابية في الجولة الثانية المقررة الأحد المقبل.
ومن ألمانيا إلى روسيا وبولندا وإيطاليا، تكاثرت ردود الفعل. فقد أفاد الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، بأن بلاده «تتابع عن كثب مجريات الانتخابات الفرنسية حيث التوجهات (الجديدة) التي برزت سابقاً في عدد من البلدان الأوروبي بما فيها فرنسا أخذت تتأكد». وأضاف: «سوف ننتظر جولة الإعادة رغم أن خيارات الناخبين تبدو واضحة لنا بشكل أو بآخر».
كلام بيسكوف يضمر أكثر مما يظهر. فروسيا التي تربطها علاقات قديمة بمارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، ترى أنه يشير إلى فوز حزبها ووصوله إلى السلطة. ورغم أن اليمين المتطرف في فرنسا عدل بعض مواقفه من الحرب في أوكرانيا، فإن هناك اعتراضاً على توجهات ماكرون بإرسال مدربين وجنود إلى أوكرانيا أو سماحه للقوات الأوكرانية باستهداف الأراضي الروسية بالأسلحة الفرنسية، أو عزمه على تزويد كييف بطائرات «ميراج» التي تصنعها شركة «داسو للصناعات الجوية».
وسارعت مارين لوبان إلى تأكيد أن رئيس الجمهورية في فرنسا «رئيس شرفي» للقوات المسلحة، وليست له حرية الحركة أو التصرف بها. من هنا، فإن فوز اليمين المتطرف يمكن أن تعده موسكو فوزاً لها وبداية شرخ في المعسكر الغربي، خصوصاً أن ماكرون سعى في العام الماضي إلى طرح نفسه بوصفه زعيماً للجناح المتشدد في دعم أوكرانيا دون حدود.
مخاوف بولندية وإسبانية
يعد رئيس وزراء بولندا دونالد توسك الأكثر قلقاً على فرنسا وعلى الاتحاد الأوروبي، وله في ذلك أسبابه. ونقلت «وكالة الصحافة الفرنسية» عنه قوله الاثنين متحدثاً عن التقدم الكبير الذي حققه حزب مارين لوبان: «هذا الأمر يبدو وكأنه خطر كبير. ليس لناحية نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية فحسب، بل المعلومات حول نفوذ روسيا واستخباراتها في كثير من الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا». وأضاف توسك: «هي إشارة واضحة على ما يحدث، ليس في فرنسا فحسب، ولكن في دول أخرى أيضاً، من ضمنها في أوروبا الغربية». ووصف الرئيس السابق للمجلس الأوروبي ما يحصل بأنه «اتجاه خطير»، معبراً عن مخاوفه من أن «تصبح فرنسا، في القريب العاجل، شوكة في خاصرة أوروبا المعرضة لمواجهة بين القوى المتطرفة»، مشيراً بذلك إلى الخلافات الجذرية بين التيار اليميني المتطرف والجبهة الشعبية الجديدة. وأكثر من ذلك، حذّر توسك من أن «القوى الأجنبية وأعداء أوروبا منخرطون في هذه العملية، ويتسترون وراء هذا النوع من الحركات» في إشارة خفية إلى روسيا بالدرجة الأولى.
وفي السياق عينه، قال رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إنه «لا يعد أن فوز اليمين المتطرف محقق»، معبراً عن أمله بتعبئة أقوى لليسار الفرنسي. وينتمي سانشيز إلى الحزب «الاشتراكي» الإسباني. وقال لإذاعة محلية: «ما زال لدي الأمل في تعبئة اليسار الفرنسي، وفي أن يعي المجتمع كم من المهم بمكان الاعتماد على سياسات وحكومات تقدمية».
وبعكس مخاوف توسك، رحبت الأحزاب اليمينية الأوروبية الأخرى بفوز «التجمع الوطني». فقد وجه ماتيو سالفيني، رئيس حزب «الرابطة»، ونائب رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني التي تنتمي بدورها إلى اليمين الإيطالي المتطرف، تهانيه إلى مارين لوبان وجوردان بارديلا، رئيس حزب «التجمع الوطني»، والمرشح لرئاسة الحكومة في حال فاز الحزب المذكور بالأكثرية. وكتب سالفيني على منصة «إكس»: «تهانينا لمارين لوبان وجوردان بارديلا للنتائج الباهرة التي حصلا عليها في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية». وأضاف: «العار على ماكرون الذي دعا إلى قيام مجموعتين مناهضتين للتجمع الوطني في جولة الإعادة، فإنه يتصرف مثل أورسولا فون دير لاين، ويسعى بكل الوسائل لإعاقة التغيير الذي يريده ملايين الفرنسيين في باريس كما في بروكسل». أما حزب «فوكس» اليميني المتطرف الإسباني، فقد سار على درب سالفيني، إذ هنأ التجمع، عادّاً أنه «فوز الأمل والحرية والأمن للفرنسيين»، آملا تواصل تقدم «الوطنيين الأوروبيين».
وفي لندن، قال وزير الداخلية البريطاني جيمس كليفرلي لإذاعة «بي بي سي» إن ماكرون هو «محاورنا الأول في مسائل العلاقات الدولية، وبطبيعة الحال، نحن نتابع بانتباه وعن قرب تداعيات الانتخابات الفرنسية». وتجدر الإشارة إلى أن حزب «المحافظين» الحاكم في بريطانيا يواجه انتخابات بالغة الصعوبة، وتبين استطلاعات الرأي تقدماً كبيراً لحزب «العمال» الذي سيعود، من دون شك إلى السلطة.