أخبارأوروبا

شبح معسكرات «الغولاغ» السوفياتية الرهيبة يطارد الروس مجدداً

مع توقيف السلطات الروسية مئات المواطنين لانتقادهم هجومها على أوكرانيا، أدركت ماريا (47 عاماً) القاطنة في موسكو، أنها تشعر بخوف لطالما خالج جدتها ضحية القمع في عهد ستالين.

وأعاد الاضطهاد السياسي في موسكو عقب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، معسكرات «غولاغ» السوفياتية المخصصة للاعتقال إلى الأذهان بصورة شبح مخيف.

وتصفحت ماريا كتاباً يضم صوراً لضحايا عمليات تطهير في عهد ستالين. كان والد جدتها من أصل بولندي، وأُعلن «عدواً للشعب»، وأُعدم رمياً بالرصاص في عام 1938 على غرار كثر حينها، حُكم عليه بالإعدام بتهمة «التجسس» لصالح بولندا قبل أن يبرّأ وهو ميت لاحقاً، بعد وفاة ستالين.

وأمضت زوجته 4 سنوات في معسكرات «غولاغ» وعانت ابنتهما، أي جدة ماريا، من وصمة عار مثل غيرها من أبناء «أعداء الشعب»، ولطالما شعرت بخوف من الاعتقال.

 

سيدة تنظر إلى نموذج لبرج سجن خلال زيارة إلى متحف تاريخ الغولاغ في موسكو (أ.ف.ب)

 

وحالياً تخشى ماريا من أن تصنفها السلطات الروسية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين «عميلة أجنبية»، وهي صفة تُفرض على المعارضين وتجبرهم على الامتثال لقيود إدارية قاسية، تحت طائلة السجن، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

وروت ماريا، طالبة عدم الكشف عن هويتها، أنها تُدرِّس اللغة الإنجليزية في إحدى الجامعات. وأعربت عن خشيتها من تصنيفها «عميلة أجنبية»؛ لأن عملها يتطلب منها دراسة الثقافة الغربية، في حين تعدّ اللغة الإنجليزية حالياً في روسيا «لغة معادية»، على حد قولها.

وعلى غرار آلاف الروس، تستخدم ماريا الشبكات الخاصة الافتراضية «في بي إن» (VPN) للوصول إلى مواقع وسائل الإعلام الغربية على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي المحجوبة في روسيا.

ولكن مع انتشار التجسّس والوشاية في روسيا منذ بدء الحرب في أوكرانيا تتوخى ماريا الحذر خشية أن يُكشف أمرها.

وقالت: «عندما أستقل وسائل النقل العام وأدرك أن هناك شخصاً بجانبي لا يقرأ ويراقب مَن حوله، أُغلق أي مواقع على هاتفي وأختار الألعاب».

خوف تاريخي

وتحذف ماريا كل ما قد يثير شبهات بشأنها قبل سفرها إلى الخارج، إذ تمر حينها بمراكز حرس الحدود التابعة لأجهزة الأمن الفيدرالية الروسية، فتلغي اشتراكها في قنوات المعارضة على «تلغرام»، وتغادر مجموعات الدردشة حيث تتحدّث عن أوكرانيا. وقالت: «أخشى أن يفتشوا هاتفي» على الحدود، وهو أمر شائع في روسيا.

 

الشرطة تعتقل رجلاً لأنه أراد وضع الزهور تكريماً لأليكسي نافالني في روسيا (أ.ب)

 

وتخفي ماريا معتقداتها وتعاطفها مع الثقافة الأوكرانية على الرغم من كونها سلمية، لدى وجودها خارج دائرة المقربين منها. وتتوخى الحذر حتى لدى اختيار ملابسها للخروج، إذ تتجنب ارتداء لوني العلم الأوكراني الأصفر والأزرق معاً، أو ارتداء قميص «فيشيفانكا» في أماكن عامة، وهو عبارة عن قماش أبيض خفيف يتميز بتطريزاته الدقيقة، ويعد الزيّ الشعبي التقليدي للشعب الأوكراني، وقد أهداها إياه أصدقاء.

وأضافت: «ينمو الخوف بداخلي وأدرك أنني أتصرف مثل أسلافي، أشعر بالرعب عندما يقرع أحدهم جرس باب منزلي، وأفكر ثلاث مرات قبل أن أكتب أو أتفوه بأي عبارة».

من جهتها تحدّثت سفيتلانا غانوشكينا، العضوة في مجموعة «ميموريال» الحقوقية، عن «خوف تاريخي، وحتى وراثي» في بلد يعاني من ندوب عميقة بسبب الاضطهاد إبان حكم القياصرة والاتحاد السوفياتي وبوتين حالياً.

 

عناصر من الشرطة يراقبون امرأة تبكي خلال تقديم التحية للمعارض أليكسي نافالني عند نصب تذكاري في سانت بطرسبرغ بروسيا (أ.ب)

 

و«ميموريال» منظمة غير حكومية حلّتها السلطات الروسية عام 2021، وعُرفت بدورها الرئيسي في الكفاح للحفاظ على ذكرى الاضطهاد السوفياتي وتوثيق الاضطهاد في روسيا خلال عهد فلاديمير بوتين.

وقالت غانوشكينا المصنفة «عميلة أجنبية»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «عند رؤية هذه الأحكام القاسية وطريقة معاملة السجناء، وحتى المرضى منهم الذين أدينوا لانتقادهم الهجوم على أوكرانيا، لا يجرؤ الناس على الاحتجاج، ولا يجرؤون على الكلام».

وتحدثت عن العبودية بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، و«الإرهاب الأحمر» بعد الثورة البلشفية عام 1917، وعمليات التطهير الستالينية في ثلاثينات القرن العشرين. وأوضحت أنه على مر التاريخ الروسي، قسم الخوف المجتمع بين «أولئك الذين كانوا على استعداد للخضوع، وأولئك الذين لم يكونوا مستعدين لذلك، فغادروا البلاد».

وأعربت عن أسفها قائلة: «أدى التاريخ إلى نوع من الفرز بشكل طبيعي. لدينا حالياً جيل كامل من الناس غير قادر على الدفاع عن نفسه».

«عبد للخوف»

وعدّ المنشق السوفياتي ألكسندر بودرابينك (71 عاماً)، في حديث لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، أن «الخوف هو العائق الرئيسي أمام الحياة الطبيعية في بلادنا».

وأضاف بودرابينك، الذي أُرسل إلى المنفى في سيبيريا عام 1978، قبل أن يدخل السجن في عام 1981 بسبب تأليفه كتاباً عن علم النفس العقابي في الاتحاد السوفياتي، أن «الخوف يثبط معنويات الناس، ويحرمهم من حريتهم». وأكد أن «الإنسان الخائف لا يكون حراً، بل يصبح عبداً لخوفه ويستمر في العيش من دون أن يتمكن من تحقيق إمكاناته».

وأكد هذا المنشق الذي رفض مغادرة الاتحاد السوفياتي متحدياً ضغوط جهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي)، أن الخوف «ليس خصوصية عرقية أو قومية أو جينية» خصوصاً في روسيا.

وقال: «في كل مجتمع لا يُطبّق فيه القانون، ولا يفهم فيه الناس ما يمكنهم وما لا يمكنهم فعله، وما هي القواعد والعقوبات، يتصرف الناس بالطريقة نفسها».

وتابع: «زرت بلداناً شمولية عديدة، وفي كل مكان فيها كان الوضع كذلك إلى حد ما». وخلص بودرابينك إلى أن «السبيل الوحيد الذي يمكن من التغلب على الخوف هو الاقتناع بأنك على حق».

المصدر / الشرق الأوسط
إغلاق