تعيش الطبقة السياسية الفرنسية هذه الأيام حالة من انعدام اليقين، بسبب تواتر المعلومات عن عزم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على إجراء تعديل وزاري يرجح أن يشمل رئيسة الحكومة، أليزابيث بورن، وعدداً من الوزراء، وذلك في إطار سعيه لحقن عهده الثاني بدينامية متجددة.
فمنذ إعادة انتخابه، في ربيع عام 2022، عاشت فرنسا هزات اجتماعية كانت أبرزها اثنتان: قانون تعديل سن التقاعد، الذي أنزل إلى الشوارع النقابات مجتمعة ومئات الآلاف من المواطنين الرافضين للمشروع الحكومي، وذلك لأشهر طويلة عمت خلالها المسيرات والمظاهرات والإضرابات. ولم يقر القانون في البرلمان إلا من خلال لجوء الحكومة إلى المادة 49 – 3 من الدستور الفرنسي الذي يمنحها إمكانية الالتفاف على رفض البرلمان من خلال طرح الثقة بنفسها، بحيث يقر مشروع القانون في حال فوزها بثقة النواب مجدداً. وخلال الأشهر العشرين التي أمضتها بورن على رأس الحكومة، لجأت إلى المادة المذكورة 23 مرة، وهو ما يعد رقماً قياسياً، والسبب في ذلك أن العهد والحكومة لا يتمتعان بالأكثرية المطلقة في الجمعية الوطنية ما يجعل الأخيرة تحت رحمة البرلمان، ورهينة المساومات لاجتذاب أصوات النواب التي تحتاج إليها للوصول إلى الأكثرية المطلقة.
أما الهزة الأخرى، فعنوانها قانون الهجرات الذي أقر أخيرا في البرلمان، والذي تسبب في شرخ عميق داخل الحزب الرئاسي. ولم يقر القانون المشار إليه إلا بفضل أصوات نواب حزب «الجمهوريين» اليميني التقليدي، الذي فرض على الحكومة تعديل كثير من فقرات القانون المذكور لجهة جعله أكثر تشددا. وعدّت مارين لوبن، زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف أن القانون بالصيغة التي أقر بها يعد «انتصاراً آيديولوجياً» لحزبها الذي بنى صعوده السياسي على التنديد بالهجرات وبالعرب والمسلمين، ومن خلال التحذير من خسارة الهوية الوطنية الفرنسية.
حتى الساعة، لم يتصاعد الدخان الأبيض من مدخنة قصر الإليزيه. فالرئيس ماكرون الذي تراجعت شعبيته وفق ما تنبئ به استطلاعات الرأي، يريد التريث ودرس السيناريوهات الممكنة قبل أن يتخذ قراره. وثمة مدرستان تتجاذبانه: الأولى تقول بإجراء التعديل الوزاري، اليوم قبل الغد، بما في ذلك تكليف شخصية جديدة رئاسة الحكومة باعتبار أن إليزابيث بورن قد استنفدت، فضلا عن أن كثيراً من المصادر المطلعة على دخائل الأمور، تؤكد أن العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية «باردة». والسبب الآخر هو أن ماكرون بحاجة اليوم إلى ضخ دم جديد لحكومته، بعد «الانشقاق» الذي واجهه من جانب سبعة وزراء من الحكومة هددوا بالاستقالة، في حال إقرار قانون الهجرات تحت ضغوط اليمين بجناحيه التقليدي والمتطرف. وفي أي حال، يرى أنصار الخيار الأول أن ماكرون، غير القادر على الترشح لولاية ثالثة، والذي أعلن أكثر من مرة في الأسابيع الأخيرة أنه عازم على إطلاق مشاريع وورشات جديدة، لن يكون متمكناً من ذلك مع الوجوه القديمة. من هنا، الحاجة لوجه جديد يكون وصوله لرئاسة الحكومة دليلاً على رغبته الجدية بالتغيير.
بيد أن هذه القراءة ليست وحدها المتداولة. وتقول القراءة الثانية إن فرنسا كما بلدان الاتحاد الأوروبي كافة، تتهيأ لانتخابات البرلمان الأوروبي، ما بين السادس والتاسع من يونيو (حزيران) المقبل، والحال أن استطلاعات الرأي تبين أن حزب «التجمع الوطني» سيتقدم على حزب ماكرون وحلفائه. وأفاد استطلاع للرأي أجراه معهد «إيفوب» منتصف الشهر الماضي أن «التجمع» يمكن أن يحصل على 30 في المائة من الأصوات مقابل 18 في المائة لحزب ماكرون. من هنا، يعد مقربون من الرئيس الفرنسي أن من الأفضل الإبقاء على الوزارة الحالية كما هي، والقيام بتعديل واسع عقب الانتخابات لأنه سيكون من الصعب على ماكرون أن يجري تعديلين وزاريين خلال ستة أشهر.
كثر ضيوف المساء الذين يزورون قصر الإليزيه بعيدا عن الأضواء. ويرجح بعضهم أن يحصل التعديل الوزاري في بحر الأسبوع الحالي، وأنه سيشمل بورن. أما هوية البديل لرئاسة الحكومة فما زالت طي الكتمان، علما أن ثمة عدة أسماء متداولة تشمل وزير الاقتصاد برونو لومير (54 عاما)، ووزير الدفاع سيباستيان لوكورنو (37 عاما) ووزير الزراعة السابق جوليان دونورماندي (43 عاما) وآخرين. ولا أحد يستبعد أن يخرج ماكرون من قبعته اسما آخر، أو أن يبقي على بورن لأشهر إضافية أي حتى الانتخابات الأوروبية. والثابت أن التشكيلة الوزارية الجديدة لن تتضمن عدة أسماء من الوزراء، الذين أعربوا عن اعتراضهم على مضمون قانون الهجرات الذي أفضى إلى استقالة وزير الصحة أورليان روسو، المقرب من بورن. ومن الأسماء المتداولة ريما عبد الملك، وزيرة الثقافة، لبنانية الأصل وكليمان بون، وزير المواصلات وكلاهما يدينان بمنصبيهما لماكرون. وفي الأسابيع الأخيرة، خرج جيرالد درامانان، وزير الداخلية الطموح من لائحة المسترئسين للحكومة، بعد فشله في توفير الأصوات اللازمة لتمرير قانون الهجرات، ما دفع رئيسة الحكومة لتسلم الملف وقيادة المفاوضات مع اليمين للحصول على دعمه.
من الواضح للمراقبين السياسيين أن الحكومة الجديدة ستميل أكثر إلى اليمين، بسبب حاجة ماكرون له لممارسة الحكم. من هنا، ينتظر أن يكون رئيس (أو رئيسة) الحكومة الجديدة آتيا من صفوف اليمين، الأمر الذي يصح على المرشحين لومير ولوكورنو. الأول يتفوق على الثاني بفضل قيادته سياسة فرنسا الاقتصادية منذ انتخاب ماكرون للمرة الأولى في عام 2017. أما وزير الدفاع الشاب فإنه مقرب جدا من ماكرون الذي التحق به منذ أن كشف رئيس الجمهورية عن طموحاته السياسية. ويعد لوكورنو الوزير الأصغر سنا في تاريخ الجمهورية الخامسة الذي تسند إليه وزارة الدفاع. ويحمل وزير الدفاع رتبة كولونيل (عقيد) في الدرك الذي يتبع وزارة الدفاع بعكس الشرطة التي تتبع وزارة الداخلية.
بالنظر لهذه التجاذبات والتحديات، يعيش الوزراء أولا ومن خلفهم الطبقة السياسية ساعات قلقة وعيونهم شاخصة باتجاه قصر الإليزيه، لتفسير ما يصدر عنه مباشرة أو عن المقربين منه. ويمنح الدستور رئيس الجمهورية حق اختيار رئيس الحكومة والموافقة على الوزراء الذين يقترحهم الأخير، ما يجعل من ماكرون سيد اللعبة السياسية. ولكن يتعين عليه أن يأخذ بالاعتبار الموازين السياسية وظروف المرحلة الراهنة والمساواة في الحقائب بين الرجال والنساء وإرضاء أركان عهده والعدالة في التوزيع المناطقي.